الأربعاء 2024/09/04

آخر تحديث: 10:56 (بيروت)

الاستراتيجية الدفاعية في "اليوم التالي": مصير المقاومة والجيش

الأربعاء 2024/09/04
الاستراتيجية الدفاعية في "اليوم التالي": مصير المقاومة والجيش
هل تكون الاستراتيجيّة الدفاعيّة محور اليوم التالي؟ (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في هذه الساعة المتأخرة من تاريخ لبنان، وفي صورةٍ تُماثل كل تصورات "الحتميّة التاريخيّة"، يجد لبنان الرسميّ نفسه مجدّدًا يتخبط في أزمته الوجوديّة، كـ"دولة حاجز" في شبكةٍ جيوسياسيّة من العدوات طويلة الأمد مع محيطه و"جيرانه": شقيقةٌ لدودة، ودولةٌ عدوة، وبحرٌ ينبسط أمامه فاصلًا إياه عن حلمه العتيق بالانضمام إلى قلب العالم المعاصر والحديث.

مُجدّدًا، يجد لبنان نفسه متأرجحًا من على جرفٍ شديد الانحدار، في "ليمبو" جهنميّ على أقلّ تقدير. وبينما قرعت الحرب أبوابه وتسلّلت إلى عمقه، يقف اليوم من دون أي تصورٍ واضح لكيفيّة انتشال نفسه من هذا الدنو الخطير، أو على الأقلّ اليوم التالي لما بعد هذه الحرب الّتي تورط بها قسرًا. وفي خضّم كل هذا، يقبع في زاوية الرؤى "الإنقاذيّة" موضوع الاستراتيجيّة الدفاعيّة، كضرورة مُلّحة للاستمراريّة، بعد أن كانت لعقود، هدفًا وطنيًّا مراوغًا وملتبسًا.

فهل تكون مسألة "الاستراتيجيّة الدفاعيّة"، هي الحلّ اليوم، والمدماك المؤسس لسياسةٍ لبنانيّة موّحدة تقف على مسافةٍ واحدة من الجميع؟ أو على الأقلّ منفذ لبنان لليوم التالي بعد الحرب؟

تاريخيًّا: الاستراتيجيّة الدفاعيّة في لبنان
على الرغم من أن مصطلح "استراتيجيّة الدفاع" قد يكون مصطلحًا غامضًا إلى حدٍّ ما، إلّا أنّه في الواقع مفهومٌ أساسيّ لفنّ القيادة السّياسيّة والحوكمة الرشيدة. وتُعد استراتيجيّة الدفاع الوطنيّ أمرًا حيويًّا لبقاء الدولة في عالمٍ حديثٍ، معولم، وشديد التنافسيّة. والمصطلح لا يقتصر على المجال العسكريّ فحسب، بل يشمل جميع أصول الدولة سواءً كانت ديموغرافيّة أو طبيعيّة أو تكنولوجيّة، وغيرها. ويتم تبني استراتيجيات الدفاع الشاملة ضمن أُطرٍ زمنية محدّدة، ويتمّ وضع أولويات أصول الدولة للحماية بعد تصور التهديدات المحتملة لهذه الأصول، وأخيرًا العمل على تخفيف هذه التهديدات. أما التهديدات لأصول الدولة فهي إما محتملة أو حاضرة، داخليّة أو خارجية، وقد تحدث إما في أوقات السلم أو الحرب.

في الحالة اللّبنانيّة، لم يكن أمر العدو والخطر الذي يشكله موضع اتفاق بين اللبنانيين. وقد تُرجمت الخلافات خلال حرب 1975 في تحديد العلاقة مع إسرائيل (أول الأعداء التاريخيين لدولة لبنان). وهذا الخلاف استمر حتى حسمه اتفاق الطائف الذي اعتبر إسرائيل عدوةً وواجب لبنان مواجهتها للدفاع عن نفسه ودرء تهديدها. ولأن "الجيش لم يكن كافيًا للمواجهة"، أعطى الاتفاق دورًا لـ"لمقاومة الشعبيّة"، وهكذا برزت المقاومة الّتي كانت تقاتل إسرائيل منذ عام 1982، فاكتسبت مشروعية وطنية عامة، رغم أنها لم تكن تمثل الجميع. إلّا أن مشروعيّة المقاومة عادت وطرحت للنقاش مجدّدًا بعد صدور القرار 1559 وما تبعه من أحداث منذ عام 2005، حيث طرأت تحولات استراتيجيّة كبرى هزّت لبنان وغيّرت مواقف الفرقاء فيه، وتحديدًا بين من اعتبر أن "قوّة لبنان في ضعفه" وآخرون ممن اعتبروا أن مقاومة الاحتلال تستوجب الانضمام إلى "محاور صديقة"، كما هو الحال مع محور الممانعة. وتمّ اعتماد مصطلح "العقيدة القتاليّة" في إشارة للاستراتيجيّة المجزأة هذه.

رؤية الأفرقاء السّياسيين للاستراتيجيّة
وعليه، دخل مصطلح "الاستراتيجيّة الدفاعيّة" إلى الأدبيات السّياسيّة اللّبنانيّة، لأول مرةٍ في آذار العام 2006، حيث تمّ طرح المصطلح كصيغة توافقيّة لتقريب وجهات النظر المتباينة بين الأقطاب السياسيّة، على طاولة الحوار الوطنيّ الّتي دعا إليها آنذاك رئيس مجلس النواب نبيه بري. والّتي كان مؤداها مناقشة مسائل أساسيّة تتصل بالدولة وشؤونها الوطنيّة وعلاقاتها مع سوريا ووضع التنظيمات المُسلّحة اللّبنانيّة وغير اللّبنانيّة. أما الحوار الذي عرّج على فكرة مشروعيّة "المقاومة" حينها، وبحث في السّبل المتاحة لتطبيق القرار 1559، فاصطدم بجدار حرب تموز، ليتمّ استئنافه في جلسة تشاور أفضت إلى تأجيل البحث في موضوع الاستراتيجيّة والاستعاضة بميثاق شرف لتخفيف الاحتقان. ليتكرّر ذلك في اتفاق الدوحة في العام 2008. ومن بعده، إعلان بعبدا في العام 2012 لتحييد لبنان والنأي بالنفس، الذي نكث فيه الحزب بعد أيام، بمشاركته العلانيّة بالمقتلة السّوريّة. وبقي لبنان بعدها بلا استراتيجيّة للدفاع واضحة.

وانقسمت حينها رؤية الأقطاب السّياسيّة لمسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة  إلى ثلاثة رؤى بارزة:

الأولى: وهي رؤية مدعومة من قبل ثنائي حزب الله وحركة أمل وبعض الأحزاب وتحديدًا المسيحيّة المتحالفة مع الحزب كالتيار الوطنيّ الحر، الّتي اعتبرت أن "مشروعيّة المقاومة" مقرونة بزوال الخطر الداهم المتمثل باسرائيل، ومواجهتها تكون باستراتيجيّة ثنائيّة، أي "سلاح المقاومة" والجيش اللّبنانيّ.

الثانية: وهي رؤية مدعومة من الأفرقاء المناهضين لسياسة حزب الله، والّتي دعت إلى تجريده من السلاح أسوةً بباقي الأحزاب والميليشيات المسلّحة (تطبيقًا للقرار 1559)، على أن يستأثر الجيش الوطنيّ بمهمة الدفاع، وحماية لبنان عبر الدبلوماسيّة وتوطيد العلاقات الدوليّة، وتحييد لبنان عن صراعات المحاور.

الثالثة: هي الرؤية الّتي تتقاطع مع الرؤيتين آنفتي الذكر، والّتي اعتنقتها بعض الأحزب اللّبنانيّة وعلى رأسها الحزب التقدميّ الاشتراكيّ، الّتي أقرّت بأهمية وضع استراتيجيّة دفاعيّة يكون الجيش فيها المدافع الأساس، لكنها بالمقابل سلمت بدور المقاومة، الّتي دعت إلى دمجها بالجيش، تدريجيًّا..  

هذا في وقتٍ يبقى فيه نصّ المادة 49 من الدستور اللّبنانيّ، والّتي تنصّ على أن رئيس الجمهوريّة هو من يترأس المجلس الأعلى للدفاع، الذي يُكلّف بتنفيذ سياسات الدفاع الوطنيّ كما يحدّدها مجلس الوزراء، مُعطلاً وفاقداً لمعناه الفعليّ على أرض الواقع.. فيما يزيد الشغور الرئاسيّ الحاليّ، وواقع أن جميع أعضاء مجلس الدفاع من الوزراء، موجودون بصفتهم وزراء تصريف الأعمال، من تعقيد المشهد.

والسّياسة الدفاعيّة الوحيدة الّتي وضعها الجيش وتحديدًا تجاه إسرائيل، كانت خلال الاجتياح البريّ الإسرائيليّ للبنان في عام 1978. حينها، وضع الجيش سياسة دفاعيّة تهدف إلى كسب الوقت من أجل تدخلات دبلوماسية من مجلس الأمن الدوليّ وجامعة الدول العربيّة لتحقيق وقف إطلاق النار بنجاح. وفي النهاية، تم تمرير قرار 425، الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب الفوري من لبنان وأسس قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل). كما وهناك شبه اعتقاد أن لبنان يمتلك تاريخًا في الانخراط بنجاح في صراعات منخفضة الحدّة وحرب العصابات مع إسرائيل، كما حدث في الستينيات والسبعينيات.

هل تكون الاستراتيجيّة الدفاعيّة محور اليوم التالي؟
أما اليوم، وبعد 11 شهرًا على المواجهات بين حزب الله وقوات الجيش الإسرائيليّ، وعلى قدر ما يبدو التساؤل حول مسألة استراتيجيّة وطنيّة للدفاع، مشروعًا بل وضروريًّا من جهة، فإنّه بالمقابل بات مشوبًا بالمزيد من التعقيدات. خصوصًا في ظلّ بروز عقدة جديدة متمثلة بـ"الحدود الشماليّة لإسرائيل"، حيث تسعى الأخيرة وتحت ضغط شارعها لتأمين ضمانات في اليوم التالي لما بعد الحرب على غزّة، وطرديًّا الحرب في الجنوب (ربط الجبهتين)، وتوفير "أمن سكّان المستوطنات الشماليّة" (راجع "المدن")، بما يتجاوز أساسًا مندرجات القرار 1701 (حيث يقع نطاق القرار على جنوب نهر اللّيطاني) بعد إعلان الحزب بلسان أمينه العامّ، حسن نصرالله، العمق اللّبنانيّ وتحديدًا البقاع جزءًا من الجبهة.

ومع محاولات الدبلوماسيّة اللّبنانيّة المستميتة لخلق ضمانات لليوم التالي ما بعد الحرب، أكان بمبادرتها لتطبيق سريع لمفاعيل الورقة الرسميّة الّتي طرحتها منذ أسابيع والرامية لـ "إرساء الاستقرار في الجنوب(نصّ الورقة)، وهي اقتراحٌ لنهج منتظم، هادف لتحقيق خفض التصعيد. والموافقة المبدئيّة على تطويع المزيد من العناصر في الجيش (راجع "المدن")، كما والدفع نحو التمديد لقوات "اليونيفيل" والإيفاء بالالتزامات المفروضة في نصّ القرار 1701. بات مطلب وضع استراتيجيّة دفاعيّة وطنيّة، واقعيًّا ومصيريًّا أكثر من أي وقتٍ مضى.

فكيف تقترحه القوى السّياسيّة؟ وما هي الخيارات المتاحة لتأسيسه؟ وما هي العقبات الّتي تُعرقل المساعيّ الراميّة لذلك، سياسيًّا ولوجستيًّا؟

(المزيد من الأسئلة المطروحة ومحاولات الإجابة عنها في تقرير مقبل).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها