لم تترك دولة قطر في تنظيمها الرائع لمونديال 2022 أي شيء للصدفة، وأول تأكيد للثوابت التي قام عليها المونديال مدى الأعوام الإثني عشر الماضية، أطلقه الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، لحظة إعلان فوز الملف القطري بتسمية المونديال الثاني والعشرين (مونديال العرب). وها هو الأمير الشيخ تميم بن حمد، وهو يتوّج المنتخب الأرجنتيني، يقول: أوفينا بوعدنا بتنظيم بطولة استثنائية من بلاد العرب، أتاحت الفرصة لشعوب العالم لتتعرف على ثراء ثقافتنا وأصالة قيمنا.. وأضفى الأمير آخر لمسة من الإبهار القطري بإلباسه ميسي قائد الفريق الفائز البشت الخليجي، لتتلازم الدمغة العربية الخليجية مع انتشار صور كأس العالم والزي الخليجي التقليدي مدى الكون.
الرئيسة الحنونة كوليندا والرئيس الحماسي ماكرون
هذا العمل السياسي الذي أراده أمير قطر، تتويجاً للثمرات التي جنتها المنطقة العربية جراء تنظيم كأس العالم للمرة الأولى في الشرق الأوسط، كان قطف ثمراته أيضاً الرئيس الروسي بوتين في مونديال 2018، حيث أُعتبر الفائز سياسياً في أكبر حدث رياضي عالمي، أمّا الرئيس الفرنسي ماكرون الذي لم يتوان عن القفز حين فاز منتخب بلاده بمونديال روسيا، فكان في استاد لوسيل أكثر انضباطية في الحفاظ على بروتوكول الرئيس قدر الإمكان، مكتفياً بخلع الجاكيت وبالانفعال تارة والاحتفال تارة أخرى، غير أنه ما لبث أن جارى في الحماسة الرئيسة الكرواتية السابقة كوليندا غرابار كيتاروفتيش، التي أمسكت بيده بنهائي المونديال الروسي وقّبلت الكأس التي فازت بها فرنسا على بلدها (4-2)، وكذلك قبّلت جميع اللاعبين الفرنسيين والكروات وتبللت حتى العظم..
ومثلما فعلت كوليندا "الرئيسة الحنونة" بدخولها غرفة الملابس لتواسي لاعبيها الخاسرين، فعل الرئيس ماكرون، الذي كان حضر مباراة الفوز على المغرب في ربع النهائي معلناً: الآن الكأس، فخاطب اللاعبين: جعلتم فرنسا تحلم.. لعبتم مباراة رائعة..
وحرص الرئيس على مواساة مبابي في أرض الملعب لدرجة المبالغة، مشدداً على أدائه الاستثنائي.
وبغياب الرئيس الكرواتي الحالي، كانت الرئيسة السابقة كوليندا حاضرة مؤازرة ومهنئة فريقها في الفوز على المغرب بالمركز الثالث، بهدفين مقابل هدف، بقيادة اللاعب المخضرم مودريتش أحد أفضل لاعبي خط الوسط تكاملاً في العالم، وأول لاعب كسر سيطرة ميسي ورونالدو على جائزة الكرة الذهبية حين خطفها في 2018، وأكبر لاعب يخوض 7 مباريات في كأس العالم بنسخة واحدة (37 عاماً وشهران).
من ريان طفل البئر إلى المونديال.. المغرب حديث العالم
ومودريتش نجم ريال مدريد الذي قال عنه مدربه الإيطالي أنشيلوتي، إنه لا يخسر الكرة أبداً، أسهم في إيقاف المغاربة على الرغم من عدم تأخرهم أكثر من دقيقتين للرد بواسطة أشرف داري عن إدراك هدف التعادل، بعدما سجّل الكروات أول هدف لهم في فريق إفريقي بكأس العالم. وكما بدأ الكروات بهدف مبكر أنهوا الشوط الأول بالهدف الثاني في الدقائق الأخيرة، لتبقى النتيجة على حالها، وليكرر المنتخب الكرواتي إنجازه بالمركز الثالث في 1998 بالفوز على هولندا (4-1)، فيما كان المركز الرابع إنجازاً كبيراً لمنتخب أسود الأطلس كأول فريق عربي وإفريقي يحقق ذلك.
والفريق المغربي الذي يتلقى هدفين في شوط واحد للمرة الأولى، كان أقل عطاءً في وسط الملعب، وأكثر أخطاءً في الدفاع وإضاعة الكرات، آخرها في الدقيقة الأخيرة حين استقرت كرة نصيري على سطح المرمى، بخلاف ما كان عليه في المباراة أمام فرنسا حيث كان أكثر محاورة وتنظيماً ووصولاً إلى منطقة الخصم.
ومع ذلك كان الفريق المغربي أجمل مفاجآت المونديال، وذاع صيته في أرجاء العالم وأصبح إسم المغرب متداولاً بكثافة، كما كانت الحال في مأساة ريان طفل البئر الذي شغل العالم خمسة أيام قبل انتشاله جثة من عمق 23 متراً في منطقة شفشاوت شمال المغرب.
نهائي بثلاث مباريات
وكما قلنا، توّج النهائي المثالي بين فرنسا والأرجنتين نجاحات مونديال قطر. وقد أجمع الخبراء والمراقبون والإعلام على أنه أقوى نهائي في تاريخ كأس العالم، ليس بالأهداف الستة فقط بل بتحوّل التوقع للصراع على لقب الهداف بين ميسي ومبابي إلى واقع، وكأننا في مباراة داخل مباراة، حيث كان الأرجنتيني يسجل أولاً ويرد الفرنسي الذي فاز في النهاية بهذه المباراة الخاصة (8-7) مخترقاً سيطرة الفريق الفائز على الألقاب الفردية: ميسي أفضل لاعب وفرنانديز أفضل لاعب شاب ومارتينيز أفضل حارس.
وحتى في الركلات الترجيحية، سجّل كل من هداف المونديال ووصيفه، ولكن الحارس الأرجنتيني واصل تألقه ومهارته في صد الركلات الترجيحية ليحسم اللقب، بعد أن عجز ميسي ورفاقه عن المحافظة على التفوّق بهدفين مدة ثمانين دقيقة، ليلحق بهم مبابي في الدقائق العشر الأخيرة بثنائية مدهشة، ثمّ يرد على هدف ميسي الثالث بتعادل مثير في الشوط الإضافي الثاني.
وإذا جاز لنا أن نتحدث عن مباراة خاصة ثانية طرفاها المدربان سكالوني وديشامب، يمكن القول أنّ الأخير كسب النزال، فالأرجنتيني ارتكب الخطأ الذي كان سيحمله الخسارة التي أبعد مرّها الحارس مارتينيز. وذلك بإخراجه دي ماريا، الذي اعتبر ميسي لوقت طويل قبل بدء المونديال أنّ إصابة زميله ستقلِل من فرص تألقه، ذلك أنّ دي ماريا كان بطل الشوط الأول ومصدر الخطورة الرئيسي على المرمى الفرنسي، فقد تسبّب بركلة الجزاء التي سجّل منها ميسي هدفه الأول، وسجّل الهدف الثاني، فيما كانت التغييرات التي أجراها ديشامب سبباً في التقلبات بمجريات اللعب لمصلحة "الديوك".
فاز ميسي وانتصرت العدالة، واعترف الجميع بحق "البرغوت الصغير" بكأس العالم الذي كان ينقص سجلاته، بمن في ذلك الملك بيليه الذي قال: نجاح ميسي مستحق ودييغو (مارادونا) يبتسم الآن، وكان أعظم لاعب في التاريخ مصيباً في استحضار إسم الغائب الأكبر عن الإنتصار الثالث للبيسيليستي وكان صانع الثاني (1986).
وهكذا صعد ميسي إلى مرتبة الأسطورة منهياً سيطرة 16 عاماً للأوروبيين، وليعيد اللقب الغائب منذ 36 عاماً، وليفتح شهيته على مواصلة اللعب دولياً ليتذوق اللعب كبطل للعالم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها