في لبنان، وخلافاً لتقاليد الدول التي تواجه أزمات فتستنفرُ لابتكار حلول لها، ينهمك الساسة بالبحث عن كل ما يضيّق سبل الحياة على الفئات المستضعفة والمهمّشة، ليزيدوا على مآسيهم مآسي جديدة، تارة باسم القوانين وتارة أخرى باسم الوطنية التي غالباً ما تكون عنصريّة مقنّعة. وهنا، تطول لائحة "الإخفاقات"، وخصوصاً بحق المرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي.
غير مرئيين
آخر المآسي-الفضائح عدم قدرة الأم اللبنانية على نقل أبنائها من مدرسة خاصة إلى أخرى رسمية لأن "الأولوية للطلاب اللبنانيين"، فضلاً عن عيشها في خوف دائم من مرض أبنائها، لأن المستشفيات باتت تشترط الدفع بالدولار، باعتبارهم "أجانب" وليسوا من حاملي الجنسية اللبنانية. وهم لا يحق لهم أصلاً المطالبة بها أو بأي حق من الحقوق المدنية!
"نحن غير مرئيين بالنسبة إلى الدولة. وكأننا من كوكب آخر.. من فضاء آخر. كأمهات لبنانيات، ترعرع أولادنا وعاشوا في لبنان، نواجه تهميشاً فاضحاً من أبسط الأمور إلى أكبرها، سواء في مواجهة أزمة كورونا أو الأزمة الإقتصادية وغيرهما"، تقول أشواق منصور (44 عاماً) وهي سيدة لبنانية متزوجة من تركي الأصل منذ 28 عاماً ولديها 3 أولاد (6 و14 و24 سنة). مؤخراً، قررت منصور نقل ابنتها من مدرسة خاصة إلى أخرى رسمية، لعدم قدرتها على تحمل كلفة الأقساط، بسبب تضخم الأسعار، لتتفاجأ بقرار وزارة التربية بأن "الأولوية للبنانيين" أي لمن هم من أب لبناني.
لم يحصل الإبن الثاني لهذه السيدة، المهاجر إلى إيطاليا بهدف الدراسة، على أي مساعدات رسمية خلال الأزمة، خلافاً للطلاب اللبنانيين في الخارج. وخلال أزمة كورونا، أُرسلت طائرة خاصة لجلب هؤلاء الطلاب من إيطاليا باستثناء إبنها. لماذا؟ كان الرد بأنه "غير لبناني".
تأسف منصور للدرك الذي وصل إليه التهميش لهذه الشريحة، وتقول إن "أكثر ما يغضبها أن السياسيين قادرون بسهولة على تعديل قانون منح الجنسية الصادر في العام 1925، الذي يحصر إعطاء الجنسية اللبنانية للأبناء من أب لبناني". فهو، بحسبها، قانون "أكل الدهر عليه" منذ مرحلة الانتداب الفرنسي. لكن بسبب اعتبارات سياسية وطائفية وديموغرافية، يرفض السياسيون تعديله. هي دائمة التوجّس والخوف من احتمال مرض أولادها، في بلد يحتاج فيه المواطن الحاصل على كامل حقوقه على قرض مالي لسداد فاتورة المستشفى، فكيف بفئة هي أصلاً غير مرئية، "بعتل همّ لما أولادي يمرضوا. أنا لديّ ضمان ولكن لا يحق لي بضمان أولادي"!
تستذكر منصور المرة الأولى التي شعرت فيها بالإهانة والظلم بسبب حرمان أبنائها من الجنسية، عندما كان عمر أحدهم 8 سنوات، يومها طلبت جهة تبني موهبته في لعب الفوتبول، "حين علموا أنه يملك إقامة وليس جنسية كغيره من الأطفال، سحبوا العرض". هي تواجه يومياً وفي كل مناسبة عنصرية مقيتة، وخلال مناقشتها رسالة الدكتوراه، قالت لها إحدى الدكاترة المنتمية إلى حزب مناهض لحق منح الجنسية، "كل واحد أولاده أجانب يفل على بلدو. نحنا بلدنا ما بقى يتحمل أجانب". هكذا، تشعر منصور، مرغمة، أنها غريبة عن لبنان في كل مرة تزور مركز الأمن العام لتجديد إقامات أولادها. تجلس في الأماكن المخصصة للرعايا الأجانب، وتقول إن المشكلة ليس فقط في التهميش، بل في أنه لا يوجد قانون لإنصافهم هي وأولادها ومثلهم كثير.
"إقامة مجاملة"!
في ظل غياب الاحصائيات حول عدد الرجال الأجانب المتزوجين من لبنانيات، وعدد أطفال هذه العائلات، ذكر مصدر من الأمن العام بشكل حصري لـ"المدن" أن 90 ألفاً هو العدد التقريبي لأبناء وأزواج اللبنانيات الحاصلين على إقامة مجاملة من الأمن العام. وهو رقم يُمثّل مقياساً للعدد الحقيقي. ففي عام 2017، حصل 21.796 من الأطفال وأزواج اللبنانيات غير المواطنين على إقامة قانونية، حسب أرقام الأمن العام التي حصلت عليها منظمة "هيومن رايتس ووتش". وتوصّلت دراسة مدعومة من "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" عام 2009 إلى وجود 18 ألف حالة زواج فقط بين لبنانيات وأجانب في لبنان بين 1995 و2008.
اجتماعات ولا خطط!
عطفاً على القرارات الأخيرة الجائرة بحق عائلات الأم اللبنانية، تقول عضوة كتلة التنمية والتحرير النائبة عناية عز الدين لـ"المدن" إنها "كخطوة أولى، سوف تستدعي الأطراف المعنية إلى اجتماع طارئ خلال أيام، أقله للإضاءة على هذه القرارات". وهي، في ظل الرفض التام لمنح الجنسية، سبق أن تقدمت باقتراح قانون لمنح أبناء اللبنانيات الحقوق المدنية والاجتماعية مؤقتاً، إلى حين حلّ موضوع الجنسية. لكنها واجهت الرفض من الطرفين، إذا اعتبر الطرف الداعم لمنح الجنسية أن هذا القانون المؤقت قد يؤخر تعديل القانون ومنح الجنسية، وفي المقابل تخوّف الطرف المناهض من القانون على اعتبار أنه "توطين مبطن"!
وتضيف عز الدين أنها طلبت من وزارة الداخلية والأمن العام الأعداد والتفاصيل الكاملة للأسر من أم لبنانية وأب أجنبي، "لنبني على الشيء مقتضاه، ولنعلم إن كانت المخاوف بشأن الديمغرافية في مكانها"، لافتةً إلى أهمية منح الأبناء حقوقهم "أقله من باب الخوف على المجتمع"، محذرةُ من أنه "بشكل عام، إن من شأن تهميش أي شخص أن يتحول إلى خطر على مجتمعه".
وتشدد على أهمية "استراتيجية الدمج" المعتمدة في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا، وقالت إن قانون منح الجنسية في لبنان تم بمرسوم اشتراعي سنة 1925 عن المندوب الفرنسي، وهو اعتبر وقتها أن رابطة الدم تنتقل فقط عبر الأب، و"أنا قلت لهم، خلونا نتفق على مبدأ أن رابطة الدم تنتقل عبر الأم أيضاً مع وضع ضوابط"، لكن "ما زلوا يتحفظون على منح هذه الحقوق بسبب خلفيات لها علاقة بالنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين"، مضيفةً "حتى فرنسا غيّرت قوانينها".
لا جنسية ولا حقوق
من جهتها، لخصت عضوة كتلة المستقبل النائبة رولا طبش ملف أبناء اللبنانية بالقول "بالمختصر لا حقوق لأبناء الأم اللبنانية، ولا نية لدى السياسيين بإعطائهم أي حق، سواء الجنسية أو غيرها". وتضيف "من خلال ممارستي لعملي النيابي، تبين لي أن لا رغبة بإعطائها أي حقوق، لا مساعدات مادية أو غذائية أو حتى منحة دراسية".
وتشير طبش في حديث لـ"المدن" إلى الأموال التي مُنحت للمدارس الرسمية والمدارس الخاصة غير المجانية، لمساعدة الأهالي والطلاب في خضم الأزمة الاقتصادية الحالية، بهدف مساعدة الأهالي في دفع الأقساط، وقالت إنها طالبت بمنح المساعدات أيضاً للطالب من أم لبنانية إسوةً بالطالب اللبناني، "قامت الدنيا ولم تقعد". وتلفت النائب الطبش إلى أن الأحزاب المناهضة لمنح الجنسية ترفض مناقشة أي قوانين أو طروحات أو تعديلات على قانون 1925، وتضيف: "نحن (المستقبل) والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل ندعم منح المرأة اللبنانية هذا الحق.. أما الباقون فرافضون وبشدة".
حقوق أساسية لا رفاهية
وتقول رئيسة حملة "جنسيتي حق لي ولأسرتي" كريمة شبو، في حديث لـ"المدن"، إنه "مع كل أزمة، يقولون لنا إن الأولوية ليست للحديث عن حقوق الأبناء من أب أجنبي، ولكن نحن لا نتحدث عن الرفاهية هنا، بل عن حقوق أساسية وإنسانية محجوبة عنهم"، موضحةً أن الجنسية هي صلة الوصل الأساسية بين المواطن ووطنه، وفي حال حجبت عنه، فهو يُحرم من الحق في الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي والإقامة والسفر.. إلخ.
مؤخراً، استطاعت الجمعية إبطال عدد من القرارات الجائرة بحق الأبناء، كقرار الجامعة اللبنانية بالدفع بالدولار للطلاب الأجانب، والذي استثنى وقتها الطلاب السوريين والفلسطينيين، ولكنه لم يستثن الأبناء من أم لبنانية، وكذلك قرار المدارس الرسمية بإعطاء الأحقية للطلاب اللبنانيين في تأمين مقاعد دراسية، و"لكن المشكلة تكمن في أنه لا يمكننا أن نمنع كل مشرّع أو مسؤول عن اتخاذ مثل هكذا قرارات". وهنا تؤكد على أهمية استثناء أبناء الأم اللبنانية من أي قرار يخص الأجانب.
وتضيف "إن المشكلة الأبرز تكمن في غياب القرارات الوطنية التي تعامل كل المواطنين على حد سواء. إذ تستغل المؤسسات التعليمية والصحية وفي سوق العمل أيضاً تلك الفئات، مسلوبة الحق في الأساس، من خلال وضع سياسات ظالمة بحقهم".
مؤخراً، مُنع طالب دكتوراه من مناقشة أطروحته قبل دفع كل الأقساط بالعملة الأجنبية حصراً، فجاوب الطالب بأنه يعيش في لبنان منذ ولادته فمن أين سيأتي بالعملة الأجنبية، فكان الرد أن "اللبناني فقط يحق له الدفع بالعملية الوطنية"، وحين احتد النقاش كان ردهم بكل عنصرية "إن الدولة لا تعاملك كمواطن، ويحق لنا كجامعة خاصة بالمثل".
في المستشفيات، بدأ الاتجاه نحو أن يدفع الأجنبي التكلفة بالدولار حصراً، ما يعني أن العائلات من أم لبنانية ستكون ضحية قرار جائر جديد، وهم الذي لا يحق لهم أصلاً الاستفادة من أي بطاقة صحية، سواء من الوزارة أو من الضمان الاجتماعي. عادةً، يبرر المسؤولون هذه القرارات بأنها تأتي في سياق "التخفيف من الأزمة"، فتشير شبو إلى أنه "ليس من العدل أن تدفع اللبنانيات وأسرهن بشكل خاص، والمستضعفون بشكل عام، ثمن فشل الدولة وفسادها".
ما هو موقف الوالد الأجنبي من هكذا قرارات؟ تروي شبّو أنه في إحدى المرات، نجحت طالبة من بين المئات في الدخول إلى كلية الطب في الجامعة اللبنانية لتفوقها العلمي، ولكن العائق برز حين طُلب من الوالد الدفع بالدولار، فكان رده "كيف تطالب الدولة أن أدفع لها بالدولار وهي حجزت على أموالي في البنوك؟".
في سوق العمل تحضر هذه المشكلة، بعد أن قلص عدد كبير من المؤسسات أعداد الموظفين، فأبناء الأم اللبنانية لا يحصلون على أي مستحقات أو تعويضات، "لغياب السياسات والقوانين التي تحمي حقوقهم"، تقول شبو.
المعركة الحقوقية والقانونية
قانونياً، تنص المادة السابعة من الدستور اللبناني على أن "كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم". لكن في أرض الواقع، الأمر مختلف كلياً. تقول المحامية إقبال دوغان في حديث لـ"المدن" إن "قانون منح الجنسية هو قانون غير دستوري، لأنه يفرق بين المرأة الرجل، إذ بعد سنة فقط من زواج الأجنبية من لبناني، تُمنح الجنسية اللبنانية، إلا أن اللبنانية محرومة من هذا الحق".
وتضيف "كل فترة، نسمع عن حفلة تجنيس"، موضحةً "يحق لرئيس الجمهورية كل فترة منح الجنسية لأجنبي في حال قام بأمر مميز ومهم للبنان، وعدد منهم يكون من الجنسيات السورية والفلسطينية"، غامزةً إلى "بعبع" التوطين الذي يستند عليه السياسيون في مناهضتهم لمنح الجنسية، مشيرةً إلى أن الجنسية تعطى في كثير من الأحيان لأشخاص من دون وجه حق "كهدية" لأنهم يملكون أموالاً واستثمارات في لبنان. وفي المقابل، تعامل المرأة اللبنانية كمواطنة درجة ثانية.
في بعض الحالات، يصدر القضاء اللبناني قراراً داعماً للمرأة في هذا الخصوص، ولكن هذا الأمر بحاجة إلى اجتهاد. وهذا الاجتهاد يكمن في الحصول على عدد من الأحكام على أن تثبتها محكمة الاستئناف، حسب المحامية دوغان.
أما المحامية ميساء شندر، فتضع القرارات الجديدة بحق أبناء الأمهات اللبنانيات في ظل عدم عدم وجود قوانين للاستناد عليها في هذا الخصوص في إطار "لا إباحة ولا منع"، مشيرةً إلى أن "المرأة يحق لها تقديم طعن أمام الوزارة المختصة، حسب المرجع الذي له علاقة بالقرار، إن كان مرجعاً تربوياً أو صحياً"، لافتةً إلى أنه "طالما لا إباحة ولا منع، هناك احتمال بقبول الطعن".
هكذا هم، كمن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. معلّقون بين نسب الدم، وظلم القانون. بين حق الانتماء وهواجس العنصرية. لم تكتف الدولة بسلبهم حقاً أساسياً، بل تعمل على سلبهم ما يملكون من أموال في مقابل ما يفترض أنه لهم! وهكذا أيضاً، بدل أن يعمل السياسيون على تحفيز روح المواطنة في بلد هاجر ربع مليون من شعبه "هرباً" في النصف الأول من العام 2021، فيما الآخرون يسعون للهجرة، يمعنون في ابتكار طرق جديدة لتهجير من بقي. هو بلد اللامساواة واللاعدالة، ولكم أن تتخيلوا أن الأم التي تحمل طفلها تسعة أشهر في أحشائها، وأعطته الحياة، هي محرومة من منح طفلها جنسيتها، وكأنها لبنانية مع وقف التنفيذ!
* أنتج هذا الموضوع بدعم من برنامج النساء في الأخبار التابع للمنظمة العالمية للصحف وناشري الأنباء "وان-ايفرا".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها