منذ شهر تقريباً، بدأ ناشطون وجمعيات ومؤسسات بحملات لمساعدة الناس، أطلقوا عليها شعارات مختلفة، التقت جميعها على فكرة التضامن ومساعدة المحتاجين في هذا الظرف الاستثنائي، وغالبية هؤلاء يعرفون أن ما يقومون به هو فعل خير من جهة، وتعويض عن غياب الدولة، التي أوقفت أمس قرار توزيع المساعدات، بعد أن تبيّن حجم الاستنسابية التي تتعاطى فيها مؤسساتها مع اللبنانيين، حتى في عز أزمتهم، وضعفهم ويأسهم.
يافطة صيدا
الحملات كثيرة ولا تُحصى، مجملها من دون شعارات ولا تطبيل. يقطعها صورة من هنا أو من هناك على مواقع التواصل الاجتماعي، لأفراد يريدون الظهور وهم كُثر طبعاً، ولجمعيات ومؤسسات تريد لاحقاً أن تستثمر بـ"خيرها". حال الناس المحتاجة يُرثى لها. وهناك من يستسهل استغلال هذا الأمر، أحياناً بنوايا مبيّتة وأحياناً أخرى عن سوء تقدير. المهم، كُل محتاج هو اليوم ذخيرة لمحبي الظهور وأصحاب الياقات والمشاريع. كُل محتاج هو اليوم وسيلة قد تصل لتتحول إلى دعاية ممنهجة، لمشروع سيأتي لاحقاً، أو بدأ فعلاً.
على مدخلي صيدا القديمة، رُفعت يافطتان بمحتوى واحد: "فُقراء بس عنا كرامة.. بدّك تساعد خلّي كاميرتك بالبيت". جملة بسيطة تختصر ما يحصل اليوم مع بعض المؤسسات والجمعيات. لكن ما الذي استدعى رفع الصوت من خلال يافطة؟ يقول أحد سكان المنطقة إنها "موجهة لكل من تساوره نفسه استغلال حاجة الناس في هذا الظرف الصعب، ورد على قيام مراسل تلفزيوني بتصوير توزيع المساعدات، ما استدعى تدخل شباب المنطقة ليطلبوا منه وقف التصوير وهذا ما حصل لا أكثر ولا أقل".
لا يريد شباب صيدا القديمة إعطاء الأمر أكثر من حجمه. هم ببساطة أوصلوا رسالتهم ليس فقط لمن كان يُصوّر، بل لكل من سيدخل المنطقة لاحقاً حاملاً المساعدات. يقول شباب المنطقة: "صيدا القديمة فقيرة وبحاجة للمساعدات وكثيراً، ولكن نحن أيضاً لدينا كرامتنا. من يريد أن يساعد مرحب به، لا بل نحن سنستقبله بأيدٍ ممدودة وسنساعده للوصول إلى كل الناس، لكننا لن نكون جزءاً من بروباغندا ما يسعى إليها". يُضيف هؤلاء: "أهلاً وسهلاً بالجميع ومن يريد المساعدة ليس بحاجة لكاميرا ليوّثق ما يفعله. إما أن يساعد بصمت أو لا يُساعد".
التلفزيون والوجع
اليافطة – المبادرة هي صرخة اتفق عليها شباب صيدا القديمة، وكُل مكوناتها الحزبية والاجتماعية. يريدون أن يعبُروا هذا الظرف السيء بكرامتهم ليس أكثر. الشيء نفسه سبق وقام به أهالي سعدنايل، حين رفضوا استلام حصص غذائية كان تلفزيون "الجديد" سيوزعها، مع تصوير العائلات التي ستحصل على "الهدية". والأمر نفسه حصل مع أهالي بلدة تعلبايا المجاورة. هناك أيضاً همس بين الناس حول رد الفعل عليهم حين يرفضون هكذا أمر. يختبئون ويُفضلون عدم التحدث علانية. يُريدون أن يحفظوا خط الرجعة. يُريدون أن يضمنوا ألا تشفٍ سيحصل بحقهم. هم ببساطة بحاجة إلى أي شيء يُبقيهم أحياء. إلى هذا الدرك وصلوا.
لكن تلفزيون "الجديد" أوضح وقتها أنهم فقط يُظهرون من يطلب منهم ذلك. وهم حريصون على هذا الموضوع، ويضعون "الحصص الغذائية على أبواب البيوت". والمحطة لا تقوم هي بعملية التوزيع، بل تتعاون في كل منطقة أو محافظة مع إحدى الجمعيات التي هي تتولّى توزيع المساعدات. فعلى من تقع فعلياً المسؤولية؟ ولماذا التصوير طالما "لا تريد المحطة عرض اللقطات"؟ في إحدى الفيديوهات المنشورة على "إنستغرام"، يقول المراسل في نقل مُباشر من جبيل: "(..) هذه المرة لدينا لوائح وأرقام وأسماء كُل الناس (المحتاجين) وعناوينها ونحن سنتجه إليها الآن (..)".
حتى في عمق الأزمة والوضع الهش المائل إلى الكارثي، هناك من يريد أن يستغل وجع الناس. الصورة مُغرية للفرد كما للجمعيات والمؤسسات. وسائل التواصل الاجتماعي حلبة صراع يومي على كسب ود الناس، بشتى الوسائل. وفي قلب الأزمة، هناك دائماً المواطن الفقير، الذي يتداور البعض على استغلاله. مواطن يأبى أن يترك نفسه للجوع ومذلّته. يكتب على مدخل حيّه الفقير: "عنا كرامة".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها