لم تمر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 على قرى بعلبك مرور الكرام. فالمنطقة التي اشتهرت بحرمانها وثورتها على التهميش والجوع منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وبعد أن كانت محط أنظار الحالمين بدولة العدالة والإنماء المتوازن في تشرين الثورة اللبنانية، عادت ولملمت أشلائها الثورية خوفاً من ظلم ذوي القربى الذين بصموا لكلام "الثنائي الشيعي" بعد إشهار سلاح التخوين بوجه كل ثائر بقاعي.
فكرة الثورة التي تدحرجت في قرى البقاع الشمالي من بعلبك إلى دورس وصولاً إلى اللبوة، وعرسال فالفاكهة والهرمل، ها هي اليوم تنكفئ في القرى الشيعية لتحسر نفسها مجبرة بمركزي القضاء في الهرمل وبعلبك مراهنة على حالة النهوض الشعبي في القرى غير الخاضعة لـ"تعاميم" سياسة الثنائي الشيعي.
إعتبارات عائلية وسياسية تحمي الثورة
وبقراءة سياسو-عائلية للحالة "الثورية" البعلبكية منذ 17 تشرين الأول 2019، يتبين أن تراجع للزخم الشعبي في القرى الشيعية الممتدة بين بعلبك والهرمل بدأ مع إعلان "الأمين العام" حسن نصرالله بعد يومين من الثورة، أي في 19 تشرين، أنه لا يمكن لأحد إسقاط الحكومة، ثم ما تبعها من خطاب جديد في 25 من الشهر ذاته، سبقته هجمة ما اصطلح على تسميتهم بـ"العناصر غير المنضبطة" الذين ضربوا وكسروا في خيم ومعتصمي ساحتي رياض الصلح والشهداء.
الحالة "البيروتية" لم تمر برداً وسلاماً على بعلبك الثورة، فبدأت البيئة المؤيدة للحزب، منذ إعلان نصرالله أن الثنائي خارج الانتفاضة، بممارسة الضغوط النفسية على أبناء بعلبك- الهرمل المنتفضين. ففي بلدة اللبوة حيث عادت الثورة لتوحد أبناءها مع أبناء عرسال بعد ما شهدته علاقة البلدتين من فتور سياسي منذ 14 شباط 2005، ارتأى أبناء اللبوة المنتفضين التراجع خطوة إلى الوراء، كي لا يقع المحظور وتنجر البلدة إلى صراع أهلي.
وفي هذا السياق، يلفت أحد "ثوار اللبوة" لـ"المدن" أنه في بداية الثورة "نزل أبناء عرسال إلى جارتهم الشيعية ونظموا تحركاً مشتركاً يجمعه رفض السلطة والكفر بالحرمان المسيطر على البلدتين المتلاصقتين". ويشير إلى أنه بتاريخ 20 تشرين الثاني 2019، وأثناء تنظيم اعتصام للبوة وعرسال، على طريق اللبوة – العين، افتُعل إشكال من قبل الدائرين في فلك الثنائي الشيعي، أدى إلى تعامل الثوار مع المرحلة بذهنية مختلفة، تفيد بأن أنصار الحزب لا يريدون أي تحرك مؤيد للثوار في القرى الشيعية.
وفيما لا يخفي الشاب الثائر أن الاعتبارات العائلية لها التأثير الأكبر في البلدات البقاعية، يوضح أنه وحرصاً على عدم جر البلدة إلى أي صدام، ارتأى ثوار البلدة الشيعية نقل وجهة احتجاجهم إلى بلدة الزيتون، التي تفتقر لوجود الشيعية السياسية. ويؤكد أن "الانتقال إلى الزيتون لم يكن بداعي الخوف بل لحماية للثورة وحرصاً على وحدة البلدات التي تنطبع بالبعد العائلي".
الهرمل تقف لحماية الزيتون
بعد تحول بلدة الزيتون ذات الثقل السني محجة لمعتصمي البلدات الشيعية السياسية، كادت هذه البلدة أن تواجه المحظور، عندما شهدت إشكالاً في تشرين الثورة مع عناصر مؤيدة لحزب الله قدموا إليها من القرى الشيعية المحيطة، وتحديداً من مدينة الهرمل.
فمحظور الانقسام السياسي أو حتى المذهبي، تبدد بفعل إرادة أبناء الهرمل المؤيدين للثورة والذين صودف وجود بعضهم في البلدة وقت الإشكال. إذ يقول أحد الناشطين من ثوار الهرمل لـ"المدن": "في هذه الواقعة وقف الهرمليون بوجه بعضهم البعض فتراجعت حدة الإشكال وعاد كل شخص أدراجه مغلبين الود العائلي على الانقسام".
العائلية في موقع الدفاع
كل السرد التاريخي لحراك بعض قرى بعلبك ليس بهدف الاستذكار، بل للإشارة إلى أن خصوصية هذه المنطقة تختلف كثيرا عن باقي البؤر الثورية المنتشرة على كامل الأرض اللبنانية، كون النسيج البعلبكي تطبعه الانتماءات العشائرية والعائلية. وبالتالي، فإن أي صدام سياسي ممكن أن ينتقل إلى صراع عائلي.
وبما أن "حزب الله" لم يتمكن من التأثير في القرى غير الشيعية كعرسال والزيتون أو في المدينتين الأساسيتين أي بعلبك والهرمل، اللتين إلى العائلية يتمتعان بحضور تاريخي للأحزاب العلمانية، لجأ "الحزب" في القرى الشيعية إلى استخدام شعار أن الثورة مناهضة للمقاومة، فشق وحدة العائلة، التي لم يبق لديها سوى التبرير أو الضغط على على أفرادها للانكفاء إلى المنازل.
وعليه، وبعد "تطويق" الثورة في القرى البعلبكية، المؤكد أن انتفاضة الناس تتجه إلى مرحلة ثانية قد تكسر القيد "الحزبي"، عنوانها الجوع، الذي سيجرف كل الذين لا زالوا يقدسون الانتماء على الرغيف.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها