وعلى شرف الزعماء المحليين، تأجلت أزمة المولدات في بلدات قضاء بعبدا حتى أواخر الأسبوع الماضي. ففي المدة السابقة تمكن النافذون في هذه المنطقة من تأمين المازوت المدعوم، "نتيجة جهود نواب وهيئة المنطقة في التيار العوني"، وفق ما ورد في بيانات شكر صدرت عن بعض الأهالي للزعماء المحليين في بعبدا. لكن مصدّري هذه البيانات، غرقوا اليوم في العتمة بعد نفاذ المازوت المدعوم وعدم تمكن النافذين من تأمين كمية جديدة. إنه مركب اجتماعي - ثقافي لبناني من الزمن الجميل ومستمر في عهود الخراب: شكر الزعيم وتياره السياسي على خدمة آنية. والشاكرون يعلمون أن الزعماء وأحزابهم هم المسؤولون عن خراب قطاع الطاقة في لبنان. لكن لا يهم. المهم أننا يجب أن ننتصر لزعيمنا ضد زعماء الآخرين، فنفوز فوزاً عظيماً. رغم تساوينا في العتمة أخيراً.
هروب من المنازل
وبعد فقدان الأمل بعودة تشغيل المولدات، لجأنا إلى خيار المقاهي حلاً موقتاً. ففي المقهى تتوفر الأنترنت، وقد أصبحت ركن عملنا وحياتنا. والمقهى ملاذ هروبنا من قيظ صيف اختناقنا. لكن كيف يمكن قضاء يوم كامل في المقهى؟! ماذا نأكل؟ نفكر بطعام فاسد في البرادات، في المطاعم وفي المقاهي.
أوووه... كيف لم نكن ننتبه أن التيار الكهربائي على هذه الدرجة من الأهمية في حياتنا؟
وهروبا إلى المقاهى بحثا عن أخر رمق كهربائي وفي الأنترنت، لا يعني أننا في منأى عن الأزمة. نتناول طعاماً فاسداً بسبب ندرة التبريد. وربما علينا التكتم على تسممنا لئلا نضرب سمعة القطاع السياحي الذي يجلب مغتربين ودولاراتهم الطازجة التي يساعدوننا بها، فندفعها ثمناً لطعام فاسد.
تداوي بالرقى والتعاويذ
ونحتاج إلى طوارئ مستشفيات يكاد ينفد المصل فيها، بعد توقف معمل الأمصال اللبناني الأكبر عن العمل، بسسب فقدان المازوت لتشغيله. فلنتداوى بالرقى والتعاويذ بدل الأمصال، ولنسطر رسائل شكر جديدة لولاة أمرنا الذين يستعملون الرقى والتعاويذ في نيل ولائنا السياسي لسيادتهم علينا في الحياة والمرض والموت.
موت أو موات محدق بنا من كل حدب وصوب، من الحقول أو الأرض الخراب، إلى المدينة، إلى الأسواق، إلى البيوت.
موت لم تعد تقينا منه إلا العناية الإلهية ربما. أو بعض العلاجات البدائية كاللبن أو القصعين، أو النعناع المغلي، لأن لا دواء في الصيدليات التي صارت من الذكريات. أما الرقى والتعاويذ السياسية فلسست سوى أناشيد خرابنا الزاحف على الطبيعة والبشر وفي الاتجاهات كلها.
نجاة من مقتلة!
سلسلة الأزمات، من فقدان الكهرباء، إلى التسمم الغذائي وصولاً إلى فقدان الأدوية، ليست سوى عينة بسيطة من "قصة موتنا المعلن" وغير المعلن في هذه البقعة الملعونة من الأرض الخراب.
وتبدأ قصة جديدة في هذه الأرض في حال اضطرارنا للذهاب إلى مستشفى.
نركب سياراتنا الخالية من البنزين. نصرخ على السيارة: هيهات منكِ الذلة، ظانين أنها تنطلق بنا مسرعة إلى أقرب مستشفى. لكن السيارة لا تستجيب تعاويذنا. يحاول قريب لنا أن يسعفنا فيحمل عبوة بلاستكية راكضاً إلى محطة محروقات قريبة. دقائق ويعود خالي الوفاض من ماء الحياة الأحفوري، ناجياً من ما يشبه مقتلة أمام محطة البنزين.
سيراً على الأقدام على أسفلت دبق نسير إلى المستشفى. نوبات من القيئ تدهمنا في الطريق. سخونة لاهبة تنبعث من الإسفلت. سيارة أجرة تتوقف إلى جانبنا. يومئ سائقها لنا أن نصعد. نوبة قيئ أخرى تندفع وتلطخ باب السيارة، فيهرب السائق منا.
أموات في دور أحياء
ويحاول مسعفي اللجوء إلى هاتفه المحمول طالباً سيارة إسعاف. لكنها تتعثر في الوصول إلينا، لأن طابور سيارات الأسعاف خال من البنزين أيضاً.
ولم يبق أمامنا سوى التسليم بالقضاء والقدر. "فالأعمار بيد الله".
وتأخذنا هذه المشاهد إلى الغوص في سيناريوهات حتفنا.
نسينا أن الأمر بدأ بتسمم بمأكولات فاسدة. وفي جولة التصحر هذه التي بدأت من المقهى أو البيت أو المطعم، مررنا في تمائم الشفاء وتعاويذها، وعرّجنا على الصيدليات الفارغة، وتناولنا النعناع والقصعين، وركبنا سيارة خالية من البنزين، ونجا قريب لنا من مقتلة أمام محطة محروقات، وتقيأنا على إسفلت ساخن وعلى سيارة أجرة، وطلبنا سيارة إسعاف فلم تأتِ.. ووصلنا سيراً على الأقدام إلى مستشفى خالية من الأمصال.
وفي سيناريوهات موتنا قد نموت بالتسمم، بإصابتنا بكورونا، بحاجتنا إلى تنفس اصطناعي.. لا يهم. أنه مصيرنا الأسود الآني والمستقبلي في لبنان.. فنحن أموات نمثل أدوار الأحياء.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها