تحت تأثير الأدوية المخدّرة والمهدّئات، يجلس طوني خليل في رواق مستشفى مركز كسروان الطبي، في بلدة غزير، وحيداً مصدوماً وبحالٍ مزرية، رافضاً المغادرة والابتعاد عمّا تبقّى له من عائلته. لا يكاد يجلس على ذلك المقعد اليتيم، حتى يتأهّب من جديد لتفقّد زوجته حبيبته، وطفليه، فلذات كبده، الراقدين داخل برّاد المستشفى، يلمسهم يشمّهم يقبّلهم، ويُشبع عينيه منهم، غير مصدّق أنّهم، وبلمحة بصر، غادروه جميعهم، إلى غير رجعة.
لم يُخيّل لطوني، ولو للحظة، وهو يلعب ويمرح مع ولديه فرح (8 سنوات) ودايفيد (4 سنوات) وزوجته أناستازيا كانتونشيك (35 سنة) في الثلج، يوم الأحد الماضي، أنّها قد تكون الساعات واللحظات الأخيرة برفقتهم. كان نهاراً ممتعاً أمضاه معهم قبل أن يقلّهم إلى منزلهم في الكسليك، حيث استحمّ الجميع وتناولوا العشاء. بعدها، قبّلهم طوني متمنّياً لهم نوما هنيئا، قبل أن ينصرف إلى عمله الليلي كـ"فاليه باركينغ" في نادٍ ليلي، وهو عمله الثاني كونه موظفاً في إحدى الشركات نهارا. انصرف طوني لتأمين لقمة العيش، فلا ينقصهم شيء، في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، التي يمرّ بها لبنان. توجّه الى مكان العمل مطمئناً، ليعود إلى منزله مفجوعاً.
ففي ليلةٍ غاب فيها ضوء القمر، وبينما كان الطفلان والأم نياماً، حدث احتكاك كهربائي، نتج عن المدفأة الكهربائية، التي تُركت مشتعلة في غرفة الطفلين لتدفئتهم، ما أدّى إلى تسرّب دخان أسود من غاز ثاني أوكسيد الكربون في مختلف أرجاء المنزل.
ولأنّ الوقت كان متأخرا جدا والجميع نائم، لم يستدرك الجيران الأمر على الفور. وما أن فاحت روائح الغاز السّامة في أرجاء المبنى، حتى تهافتوا إلى مصدرها. وما كان منهم إلا أن خلعوا باب المنزل للدخول، علّهم يتمكّنون من إنقاذ الضحايا. توجّهوا إلى غرفة الطفلين، ليجدوهما بحالة إغماء، وكذلك والدتهما، التي يبدو أنّها كانت قد استيقظت وهرولت نحو الغرفة لإنقاذ طفليها، من دون أن تتمكّن من الصمود والوصول إليهما، إذ ما لبثت أن أغمي عليها هي أيضاً، بسبب استنشاق غاز الكربون.
يعجز مَن اقتحموا المنزل في محاولة انقاذية، عن وصف مشهد الأم فوق ولديها، وكأنها تحضنهما بين أضلاعها لحمايتهما. "مأساة بكل ما للكلمة من معنى"، يقول الجار جورج: "لم يكن بإمكاننا أن نستوعب ما حصل". لم تنجح كل المحاولات الإسعافية بإنقاذ الصغير دايفيد، الذي لم تتحمّل رئتاه الصغيرتان السم الذي تنشّقه مرغماً، ما أدى فورا إلى وفاته اختناقاً، فيما نقلت سيارة الصليب الأحمر الأمّ إلى مستشفى مركز كسروان الطبي، وولدها فرح إلى مستشفى سان لويس، قبل أن يتم نقله إلى مستشفى الكرنتينا الحكومي، قبل أن يفارقا الحياة يوم الأربعاء. ويؤكد جورج أنّه "لم يتعرّض أيّ منهم الى إصابات حروق، بل قضوا اختناقاً".
أبت أناستازيا أن تفترق عن ولديها، تاركة زوجها المفجوع وحيداً في مصابه القاسي والأليم. فيما لا تفارق الدموع عيون شقيقاته الثلاث، وهنّ اللواتي يعتبرن ولدي أخيهما بمثابة ولديهما اللذين لم يُرزقاهما.
هول الفاجعة أصاب أيضا ادارة وأساتذة وطلاب المدرسة المركزية في جونيه. الحزن خيّم على أرجاء المدرسة. الصدمة لا تزال سيدة الموقف في صف كل من فرح وديفيد. المعلمات تعجزن عن إعطاء الدروس، والدموع لا تفارق وجوههنّ، وسط حالة من الكآبة والألم بين زملائه.
وإكرامًا لأرواحهم ولهذه الخسارة الجسيمة، أصدرت إدارة المدرسة المركزيّة بيانا أعلنت فيه أن "المدرسة تفتح أبوابها اليوم الخميس 31/1/2019 كالعادة صباحًا على أن تكون فترة ما قبل الظهر مخصصة للقداديس والصلوات على أرواحهم، لكي تستريح هانئة في السماء، حيث يستقبلهم الباري زنبقة وفي ذراعيها الملاكين الطّاهرين. وينتهي الدوام المدرسي عند الثانية عشرة والنصف ظهرًا حدادًا عليهم، لكي يتسنّى للجسم التّعليمي والإداري وكافّة العاملين في المدرسة المشاركة في الصلاة والوداع الأخير في كاتدرائية مار جرجس - صربا، عند الساعة الرابعة ب.ظ"
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها