في المقابل، رأت السلطة العثمانية في مشروع البلديات خلاصاً لها من الأزمات التي كانت تعاني منها، إلا أن هذه السلطات المحلية، لم تحدث تغييراً نوعياً في التركيبات البنيوية والاجتماعية والاقتصادية، بسبب عدم منحها الحرية الكاملة للتصرف في شؤونها.
بلديات لبنان الكبير
خلال فترة الانتداب، أراد الفرنسيون تأسيس إدارات في لبنان تشبه النموذج السائد في الغرب، فأوكلوا إلى دائرة التفتيش الاداري مراقبة البلديات، والتدقيق في موازناتها، والعمل على تحسينها. وقد بدأت مسألة تطييف البلديات تتضح في العام 1928 مع القرار 1208، الذي نص في المادة 19 منه أن عدد ممثلي كل الطائفة يرتبط بنسبة عدد ناخيبها من مجموع المسجلين في منطقة معينة.
لكن التركيبة المجتمعية التي كانت سائدة في زمن العثمانيين لم تتغير، إذ استمر أعيان ووجهاء العائلات الكبرى باحتكار المقاعد البلدية. وبحسب الدكتور محمد مراد في كتابه "المجالس البلدية والاختيارية: تطور وظائف السلطة القاعدية في المجتمع اللبناني" فإن "السلطة الانتدابية حاولت منع هيمنة عائلة بكاملها على السلطة البلدية، الا انها كانت تسهم في المقابل في تعزيز المواقع الاقتصادية والاجتماعية لعناصر عائلية نافذة، ما وفر لهذه العناصر ارتقاءاً سلطوياً، هو في الواقع ارتقاء اجتماعي – سياسي للعائلة كلها". وفي آخر انتخابات بلدية أجريت في عهد الانتداب، في العام 1934، حاز أغلب مقاعدها أفراد من عائلات معروفة في ممارسة "وظائف السلطة المختلفة".
في هذه الانتخابات، كانت العائلات تحشد، وكانت هناك مراقبة شديدة على العملية الانتخابية لكونها محصورة في منطقة معينة، ما يعطي زخماً لها. وقد كان التنافس شديداً بين العائلات الكبرى في المناطق المختلفة، ويعود ذلك الى أهمية البلدية بالنسبة للمواطنين. ولكن التنافس "لم يكن مزعجاً". ويقول رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني لـ"المدن" إن "من مميزات لبنان تمرس سكانه بالحياة الانتخابية"، بمعنى تقبلهم ورضوخهم لنتيجة الانتخاب.
لقد كان دور البلديات مرتبطاً بالسلطة المركزية التابعة لسلطة الانتداب. فقد كانت مجبرة أن ترسل قرارتها الى القائمقام، فالمحافظ، فالحاكم الإداري. وقد كانت لها صلاحيات التقرير بشكل منفرد في المسائل المتعلقة بكيفية إدارة البلدية، وشراء عقارات لا تزيد قيمتها عن عشر الدخل البلدي، والقيام بمشروعات واصلاحات شرط ألاّ تزيد قيمة الانفاق عن خمس الدخل البلدي، وتأمين الأملاك البلدية عند شركات الضمان، وإلى آخره. لكن هذه الحرية لم تكن مطلقة، اذ كان كان يحق للمحافظ، وهو معيّن من السلطة الانتدابية، أن يلغي القرارات المتخذة خلال 15 يوماً من دون الرجوع إلى البلدية. وفي ما يخص المواضيع الأخرى مثل الميزانية ورسوم البلدية، التكاليف غير العادية والقروض، انشاء الحدائق والأسواق وغيرها، فلم يكن القرار النهائي في يد البلديات نفسها، ما أفقدها سلطتها وأضعف دورها في النطاق المحلي.
ما بعد الاستقلال
في مرحلة الاستقلال، لم تنظم الانتخابات البلدية إلا مرتين، في العام 1952 والعام 1963. على أن عدم تطور العملية الانتخابية نفسها، رغم صدور قانون البلديات رقم 63 في العام 1963، رافقه تطور في توظيفها أو استغلالها. اذ شكلت البلديات ركيزة أساسية وقاعدة شعبية للانخراط في العمل السياسي ومؤسسات الدولة، وتأكيداً على النفوذ الشعبي للزعامات السياسية الساعية للوصول إلى النيابة أو الوزارة، وهذا ما عزز، مرة أخرى، نفوذ العائلات نفسها. "وقد كان حجم التنافس مرتبطاً بالوضع العام في البلاد"، على ما يقول المحامي نهاد نفول، وهو رئيس بلدية ذوق مكايل، منذ 1963، أي أقدم رئيس بلدية في لبنان.
ومنح القانون البلدي الجديد صلاحيات أوسع للبلديات وصارت تعد شخصية معنوية تتمتع بـ"الاستقلال المالي والاداري". ومن الصلاحيات الجديدة تخطيط البلدة وانشاء الشوارع والساحات العامة، الشؤون الصحية وشؤون النظافة العامة، مشاريع المياه والإنارة، تنظيم وسائل النقل، إدارة أموال البلدية والاشراف عليها، وضع موازنة سنوية، وحصولها على مساعدة في المشاريع التي تتعلق بالمدارس الرسمية والمهنية والمستشفيات والمتاحف والمكتبات ودور السينما والأسواق العمومية وغيرها. وقد وصل عدد البلديات، في العام 1966، إلى 607 بلدية.
على أن الأهم في هذه الفترة إنضمام النساء إلى المجالس البلدية، بعدما تم تعيين ثلاث نساء في المجلس البلدي لبيروت، في العام 1952، هن: ابتهاج قدورة، لور ثابت وإيلين ريحان، علماً أن النساء لم يحصلن على حقهن بالتصويت والتشرح للانتخابات إلا في العام 1953. ويؤكد نوفل أن "مشاركة النساء لم تكن كثيفة ولا تزال، وهذا ما لا علاقة له بالقانون، بل يرتبط بالتقاليد السائدة في المجتمع".
35 سنة بلا انتخابات
على أن التطور التدريجي للممارسة الانتخابية، المترافق مع الزيادة في عدد البلديات، لم يستمر، بعد تعليقها لمدة 35 سنة، بسبب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. ويقول الحسيني لـ"المدن" إنه "في فترة الحرب كنا نمدد للهيئات البلدية لعدم إمكانية اجراء الانتخاب بسبب الحرب. ومع الوقت، بدأت البلديات تفقد نصابها، بسبب وفاة أعضائها أو غيابهم، فأخذت الحكومة صلاحيات التعيين، وصارت تعين لجاناً قائمة بالأعمال البلدية. أما في القرى التي لم تكن فيها بلديات، فكان هناك ما يسمى بمصلحة البلديات والشؤون القروية، وهي كانت معنية بتسيير شؤونها".
مع ذلك، يبدو واضحاً أن قرار تعليق الانتخابات البلدية لم يكن مقرراً مسبقاً، في ظل توقع انتهاء "حرب السنتين"، اذ صدر قانون بلدي جديد في العام 1977. ويرى الحسيني أن هذا القانون "وسّع صلاحيات البلديات وأعطاها زخماً للنهوض بالأعمال، إذ كان يتم وفق هذا القانون انتخاب الرئيس ونائب الرئيس والأعضاء من الشعب. ولم يكن مسموحاً للإدارة المركزية، الممثلة بالقائمقام والمحافظ ووزير الداخلية، التدخل في إدارتها لشؤونها، إنما كانت مهامها تقتصر على المراقبة".
عودة التمثيل الشعبي
في العام 1990 إنتهت الحرب الأهلية، إلا أن الانتخابات البلدية لم تستأنف. وفي العام 1996 أطلقت "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات"، بالتعاون مع جمعيات مدنية أخرى، حملة "بلدي بلدتي بلديتي" للضغط من أجل اجراء الانتخابات البلدية، وهذا ما حصل لأول مرة في العام 1998، بعدما أجريت تعديلات على القانون 1977، يصفها الحسيني بـ"الفظيعة"، إذ "حوّلت سلطة الرقابة إلى وصاية، ولم يعد انتخاب رئيس البلدية يتم مباشرة من الهيئات الناخبة، وسطوا على أموال البلديات والرسوم التي تجبيها، وأجازوا لأنفسهم، من دون قوانين، إنشاء صندوق بلدي ينفق أمواله من دون علم البلديات ولا موافقتها، فضعف دور البلديات التنموي".
هذه السنة، بعكس الدورات الانتخابية التي حصلت بعد العام 1998، هناك احتمال، ولو ضئيل، لإرجاء الانتخابات البلدية، اتساقاً مع تعطّل الانتخابات التمثيلية الأخرى في لبنان، في السنوات الأخيرة. وهذا ما قد يستحق حملة "بلدي بلدتي بلديتي" ثانية على الأرجح.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها