في كتابها "مستقيم: التاريخ الموجز المفاجئ للغيرية الجنسية" (Straight: The Surprisingly Short History of Heterosexuality)، تشرح الكاتبة والمؤرخة الأميركية هان بلانك (Hanne Blank) ظروف نشوء مفهومي المثلية والغيرية. فقد أرسى هذه الثنائية أطباء النفس الأوروبيون الذين كانوا، ما بين العامين 1880 و1890، يتمتعون بصلاحيات طبية وتنظيرية تتجاوز معرفتهم العلمية بأشواط. وقد ظهرت هذه الثنائية في النصف الأول من القرن العشرين لأسباب سوسيولوجية وسياسية؛ ففي هذه السنوات المتسمة بصراعات وتغيرات اجتماعية وإقتصادية، دُفع الناس، بسبب عدم الإستقرار، إلى التفتيش عن قيم ثابتة للتماهي معها، وعن "هوية صالحة". فكانت الغيرية الجنسية هي الهوية التي حملها الناس أمام الآخرين كورقة ثبوتية تثبت "طبيعيتهم".
في هذه الحقبة الزمنية، أي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كان الشرق يتقبل المثلية الجنسية بشكل أثار دهشة الأدباء الأوروبيين المستشرقين، ومنهم فلوبير الذي كتب عن المثلية "هذا الأمر مقبول هنا [...] ويتم الحديث عنه على طاولة الأوتيل. أحياناً، قد تحاول إنكاره، لكن الجميع يبدأون بمضايقتك إلى أن تعترف".
إلا أن المثلية الجنسية في التراث العربي تعود إلى ما قبل ذلك بقرون. وقد خلّدها شعراء مثال إبن الرومي وأبو النواس، الذي نظم "أنا الماجن اللوطي ديني واحد/ وإني في كسب المعاصي لراغب/ أدين بدين الشيخ يحي بن اكثم/ وإني لمن يهوى الزنى لمجانب". مما يظهر أن اللواط كان أمراً علنياً وغير مخزي. بل ويروى أن الخلفاء الأمويين كانوا يمارسونه على مرأى من الجميع. وقد إشتهر في هذا الخصوص يزيد بن معاوية، والخليفة الأمين الذي أحب الغلمان، فجاءت له امه بفتيات يشبهنهم من أجل إرضائه، إلا أنها فشلت.
والمفاجئ في تاريخ المثلية الجنسية في الشرق هو كون السلطنة العثمانية، إحدى أكثر الدول بطشاً، هي من أول الدول التي ألغت تجريم المثلية، وقد حدث ذلك في العام 1858. وعند تأسيس الدولة التركية الحديثة لم يتغير هذا القانون. كما أن الأردن التي إرتكزت على التشريعات العثمانية في صياغة قوانينها، سارت بذات المنحى غير التجريمي للأفعال الجنسية المثلية. ويُرجع البعض هذا السلوك المتساهل مع المثلية إلى كون النص القرآني غير واضح أو حاسم في ما يخص هذه الممارسات وإكتفائه بذمّها.
لكننا اليوم أمام واقع مرير يتمثل بإقصاء وعنف ضد المثليين في العالمين الشرقي والإسلامي. وفي حين أنه لا يمكن إنكار المسببات الأيديولوجية، الدينية والثقافية لهذه الظاهرة، إلا أن القوى الإستعمارية ليست بريئة منها أيضاً. فبحسب ما قاله باحث الأنثروبولوجيا شارلز ليندهولم (Charles Lindholm)، في العام 1982، فإن "الممارسات المثلية، في شمال باكستان، كانت أكثر إنتشاراً في الجيل السابق. إذ أسقط النفوذ الغربي نوعاً من العار على المثلية، على الأقل بين الفئات الأكثر تعلماً".
كما أن الواقع اللبناني خير دليل على التأثير السلبي للإستعمار، إذ أن المادة 534 من قانون العقوبات التي تُجرِّم "كل مجامعة على خلاف الطبيعة" موروثة من عهد الإنتداب الفرنسي، مع أن فرنسا في ذلك الوقت كانت قد ألغت هذا التجريم على أراضيها. أي أن ما يعانيه اليوم المثليون من إذلال وتمييز هو من صناعة إحدى الدول الرائدة في حقوق الإنسان.
ليس الشرق وحده المتمسك بمبدأ أن المثلية غريبة عنه، فالغرب يستفيد منه أيضاً. فقد إستغلت الولايات المتحدة الأميركية قضية المرأة والمثليين في أفغانستان كأحد تبريراتها للتدخل عسكرياً في هذا البلد بذريعة حمايتهم من ظلم الدولة. كما يقوم الكيان الإسرائيلي اليوم بما يسمى ""Pink washing، أي تبرئة صورته من خلال إظهار تعاطفه وإحترامه لحقوق المثليين، وإنشاء قطاع سياحي لهم، وسط بيئة عربية معادية لهم.
وفي مراجعة لذاكرتي الشخصية، أستعيد البرامج والأفلام الغربية- بالأخص الأميركية منها- التي كنا نشاهدها في مراهقتنا، أي في فترة بنائنا لمنظومتنا الأخلاقية. أذكر بعض القيم التي كانت تصلني من هذا الإعلام، ومنها حظر الملامسة بين الرجال حتى لو كان القصد منها بعيداً من الجنس، أي اللمس الذي يعبر عن الصداقة أو الأخوة. هذا الحظر لم يكن موجوداً في مجتمعنا، إلا أنه وجد طريقه إلينا، حتى بدأنا فجأة في المدرسة نسخر من أي ذكر يمسك بيد آخر، ونطلق عليه تسمية "لوطي" "المخزية".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها