ذهب ياسر مع زوجته وابنته إلى الطبيب لإعطاء سيلين اللقاح، رفضت ابنة الأربعة أعوام أن يعطوها الدواء.. أصر والداها عليها كي لا تسافر من البلد بعد عشرين يوماً من دون أن تكون محصنة من الأمراض. عادوا إلى المنزل. لعبت سيلين مع اخوتها وقامت بكل الحركات المحببة إلى والديها. أضحكتهما وجلست معهما واختبأت منهما لتقفز إليهما وتحضنهما وتقبلهما.
يقول ياسر إنه لم يفهم هذا الحب الزائد من سيلين.. ياسر لا يعلم لماذا هذا الحب الدافق الكثير من الابنة الصغرى قبل ساعات من موتها. هو اشترى لعائلته في ذلك اليوم بطاقات السفر إلى كندا بعدما أمن لها التأشيرات، يريد لأولاده أن يعيشوا بعيداً من لبنان وقهره وفساده وعبواته الناسفة وازدحام السير الجنوني والعنصرية ضد كل شيء والطائفية المستشرية في كل زاوية فيه. كانت سيلين تحمل جواز السفر وبطاقة الطائرة وتمثّل وتضحك لأنها ستطير وتسافر.
بعد ساعات، إنهارت سيلين وركض الأب والأم بابنتهما إلى المستشفى، آملين أن تكون وعكة تنتهي سريعاً.. لكن سيلين ماتت متأثرة باللقاح الفاسد كما أظهرت الفحوص في المستشفى. هكذا ماتت سيلين، يقول ياسر.. يذهب إلى المدفن ويضع التراب فوق قبرها ولا ينام الليل.. صور سوداء تراود مخيلته، صور لا يحتمل الأب بشاعتها.. يتخيل مثلاً أن سيلين استيقظت في القبر وبدأت تناديه وتنادي والدتها أن يأخذوها من هذا العتم.. يعود ياسر إلى القبر، يقرب أذنه من التراب عله يسمع صوتها، يسمع كابوسه عالياً لا يتوقف.
إنه الكابوس نفسه مع صور أبشع تراها الأم كلما انتبهت أنها بلا ابنتها.. المرأة لا تعرف كيف تخرج الدموع على ابنتها.. يحكي لها زوجها عن سيلين مطولاً، يخبرها الكثير حتى يبكيها، فالطبيب حذّره من خسارة زوجته في حال لم تستطع التعبير عن حزنها وقهرها. حذره من أن تصاب بنوبة قلبية.
ولكن ما قصة اللقاحات الموجودة في الأسواق، وما قصة موت عدد آخر من الأطفال من دون الإعلان عن ذلك؟ لا أحد يعرف. كأن ما حصل في سوريا قبل أيام حيث قتل عدد من الأطفال بلقاحات فاسدة انتقل إلى لبنان أو العكس. لكن فساد الأدوية في لبنان معروف، وهناك قصة شهيرة لتزوير الأدوية بطلها شقيق وزير ما. بعض اللقاحات التي يرفض الأطباء استعمالها مستورد من كوريا وكذلك من الهند، وبعض الأدوية أتت من مصادر فاسدة جداً، وعرف الناس بوجودها حين ألقي القبض على الشبكة قبل عامين، وظهر اسم شقيق الوزير فيها، ولكن لم تتم محاسبة أعضائها، لأنها من الحيتان الكبيرة في البلد.
ياسر كتب لابنته بعد موتها كلاما حزينا جداً، قال "سيلين ماتت، ما قدرت هرّبها، كان بعد بدي 20 يوم وبتوصل على بر الأمان. سيلين ماتت قبل ما توصل كندا، سيلين ماتت بطعم فاسد متل هالبلد، بس شو هم هرّب اولادي من شي انفجار او من لحمة او حليب او ماء او...... طعم فاسد. نطرت 4 سنين وماتت نهار اللي اشتريت لها التيكت (بطاقة السفر). سيلين المهضومة الحلوة ما رح ترجع بتعرف ليش لانو حطيت التراب فوقها. بس ما هيك كان الاتفاق، كان الاتفاق انو سيلين اللي تحط التراب فوقي. سيلين ماتت بعمر 4 سنين بس اثرها ما بينقاس فيهم، لانو تركت اثر اكبر بكتير من اربعيني العمر. سيلين حبيبتي كان عندها ثقة انو رح ابعدها عن الفساد من شان هيك قبلت تاخد الطعم. سامحيني يا بابا ما كنت عارف متلك انا يمكن طفل صغير لانو ما بعرف كيف ماشية هل البلد".
سيلين في صورها العديدة التي تنشرها العائلة في منزلها البيروتي تبتسم وتلعب وتدهن نفسها بالشوكولا، تعتقد أنها بذلك ستخرب الدنيا فوق رأس أهلها، فيضحكون لهضامتها. في إحدى صورها تتخذ سيلين وضعية النوم من دون أن تغفو.. تنظر إلى الكاميرا كأنها تنظر في عيوننا.. كأنها تقول: أنا التي قتلني فسادكم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها