الجمعة 2014/09/19

آخر تحديث: 14:07 (بيروت)

سيد النور يدخل في عتمته

الجمعة 2014/09/19
سيد النور يدخل في عتمته
increase حجم الخط decrease

في دبي صباح عادي يمر كغيره، الاستيقاظ والذهاب مع يسمى إلى المدرسة وبعده العمل. صوت التلفزيون يتبدل بين مذيع وآخر، لا شيء جديد يخرق هذا الحديث القادم من بيروت حول السيد هاني فحص. فقط الاحساس الداخلي بالانهزام. هي نفسها الهزيمة التي رافقت موت أبو عمار قبل عشرة سنوات وفي الموعد نفسه.

الساعات تمر هنا كعادتها، لا شيء تغير إلا بعض الاتصالات الهاتفية المستفسرة عن تفاصيل الموت وساعاته وأمراضه ومسبباته. ولكن كل ذلك لم يمنع سؤالاً من البقاء طوال الوقت.. هل يحق لمن يموتوا أن يتركوا خلفهم مواعيد كثيرة، وأحاديث ومحاولات متكررة لتغيير الواقع أو تحسين شروطه؟ هل عليهم أن يذهبوا بهذه السرعة من دون أن ينهوا ما عليهم من واجبات؟ ومن يعيد ترتيب الأوراق التي على الطاولة كما كان يرتبها صاحبها، ومن يحمل النظارات نفسها ويضعها لحظة قراءة نص أو كتابة مقال؟ والأقسى في الأسئلة هي المتعلقة بابن وابنة أو حفيد ينتظر ممن مات ضمة كبيرة وقبلة على الخد. فالموت يضع حداً نهائياً لكل هذه التفاصيل وغيرها.

قساوة الحياة هي أن يبكي الناس موت عزيز، يبكونه لتاريخ طويل قضوه معه.. مثل أبو عمار حين حزن عليه الفلسطينيون، لم يكن هؤلاء يدركون في تلك اللحظة أن بكاءهم هو على المستقبل الأسود الذي رأوه بغياب أبو عمار وليس فقط على التاريخ الذي صنعه هذا الرجل معهم.

اليوم ينهال التراب فوق بلاطات القبر، تراب مجبول بأصوات العابرين منذ آلاف السنوات، لن تخرج مبتسماً كما يحلم البعض منا، ولن تنتبه إلى الحزن الذي ولده رحيلك، وبالتأكيد لن يعني جسدك في هذه اللحظة بالسواد الداكن الذي يغطي هذه المنطقة. لن يعنيك في موتك إن كنا سنتمكن من العبور فوق جثثنا والهرب إلى مكان أكثر أمناً، ولن ترى الجنون الذي حاربته.. جنون الأصولية الشيعية والسلفية السنية، وجنون المناطق والانتماءات القبلية والعرقية.

أيها اللبناني، يا سيد هاني فحص. أنت اليوم مثل أبي عمار الفلسطيني يوم مات، ترحل في لحظة صعبة. لحظة مرة، لو كنت حياً لم تكن لتقدر على إيقافها، أو حتى منع المجازر والمذابح القادمة فيها. ولكنت بكيت من رائحة الدماء التي ستغطي على كل شيء، وتحس بالعجز مثلنا، وتقف مشدوها في قرن العودة إلى زمن السيوف والسواطير وركوب الخيل مع أجهزة وأسلحة حديثة، والصراع على من يحب النبي محمد وآله وصحبه أجمعين.

في مكتب نصير الأسعد كان الحديث للمرة الأولى التي التقينا فيها طويلاً، سألتني عن العائلة وضحكت لرحلة الجد الطويلة قبل أكثر من مئة عام إلى جبل الدروز ومنها إلى حوران، ليعود ابنه إلى أنصار وبعدها بيروت. كان من الغريب بالنسبة لي أن تكون أنت السيد المعمم الوحيد على هذه الأرض من الأصدقاء الذي لم يعلق على اسمي، كان طبيعياً بالنسبة لك هذا الاسم وليس غريباً، كان عدم سؤالك دليلاً على شخصيتك العابرة للطوائف والمذاهب وكل الانتماءات الصغيرة.

أيها اللبناني، الفلسطيني، السوري العربي الإسلامي والمسيحي واليهودي العابر لكل الحدود.. أعتب عليك اليوم، وغيري أيضاً يعتبون ولكنهم لن يقولوها وأنت تنزل القبر وتدخل في العتمة يا سيد النور. أعتب لأن العيش يستحق وجودك وأنت الشاب الذي ما زال فتياً، وأعتب لأن هناك الكثير من الأسرار التي صنعتها مع رفاقك ولم تكتبها، وأعتب لأنه غداً حين تصل الدماء إلى الركب سنعرف أننا خسرنا قيمة مضافة في محاولة التخفيف من حجم الدمار.

غداً هو يوم القتل المتواصل يا سيد، سيوف متوهجة تستحضر علي ومعاوية ويزيد، وأنت ترحل هكذا معتقداً أن لقاء ربك أهم من كل الدنيا التي تعتبرها فانية.
يا سيد النور كيف تلف نفسك بالعتم وتختفي فجأة.

في إحدى الجلسات مع سعود المولى ونصير الأسعد، تحدثنا عن صديقنا المشترك حكمت العيد، قلنا إن المرض يأكل جسده ولكنه إنسان ينتصر حتى على أسوأ الأوضاع. كان نصير وسعود يتحدثان عن كتابة سيرة لمرحلة كنت أنت شريكاً فيها في السبعينات، سيرة لم تكتمل قبل أن يرحل كثيرون، ولكن نصير ترك كل شيء مستعجلاً الهروب من هنا كما فعلت أنت. 

increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب