لا شك أن الكاتب والأديب اللبناني الذي غادرنا قبل أيام إلى دنيا الآخرة الياس خوري عن 76 عاماً، يشكل قيمة أدبية كبيرة ومحترمة. فقد عُرف باجتهاده ومثابرته وقدرته المميزة، على إنتاج الروايات والقصص والكتب، وعلى الكتابة وبغزارة، مما كثف إنتاجه الأدبي، ليصل مجموع ما صدر عنه إلى نحو 12 رواية، تُرجم الكثير منها إلى لغات أجنبية عدة، وليصل نصه ونتاجه إلى أيدي القراء الأجانب باتساع وانتشار مستمر.
روايات خوري، كان أبرزها بطبيعة الحال رواية "باب الشمس"، التي استخدم في إنتاجها أسلوباً جديداً في التحضير والكتابة. وهي التي تجسد وتصور وتعيد رواية معاناة الشعب الفلسطيني ونكبته المستمرة والمتصاعدة، والتي تحولت فيلماً من إخراج يسري نصرالله .
وقد تمكن الياس خوري في روايته هذه، من دون تعمد، من تحقيق أهداف ربما لم يفكر هو بها أو يقصدها أو يطمح إليها، وصلت إلى حد أن مجموعة من الشباب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، استلهمت عنوان الرواية باطلاق اسمها على قرية قاموا بتأسيسها وإعلانها في فلسطين وتسميتها "باب الشمس". أي انهم نقلوا الرواية إلى الواقع. وهذه قمة نجاحات أدب الياس خوري الذي فقدناه.
العادة كانت أن يستلهم الكاتب أو الروائي المعاناة الإنسانية ويحولها إلى رواية أو قصة، كما سبق لغيره من الكتّاب أن فعل. إلا أن الذي أحدثه الياس خوري أن قصته ألهمت شعباً على تجسيد روايته على الأرض، بإقامة قرية على اسم كتابه وقصته. فكان أدبه ملهماً للفعل والواقع والتغيير في حدث قلّ نظيره في العالم.
في كل الأحوال، سينصف التاريخ والتأريخ الأدبي والنقدي، أدب ونصوص وكتابات الياس خوري، ويحدد مستواها وموقعها وتأثيرها في المستقبل المقبل في الحركة الأدبية، كما أنصف غيره من المبدعين والكتاب والأدباء الكبار. وليس هنا أوان هذا التقدير والتقويم والتحديد.
ما يعنينا في الأمر الآن، هو ما مثّله الراحل الكبير الياس خوري، من قيمة إنسانية وسلوكية، وما مثله من دور وتوجه وفكر وممارسة.
آخر مناسبة ظهور علنية قام بها ومثلها الياس خوري قبل تدهور حالته الصحية ودخوله طبقات الألم والعذاب اللامتناهي، كانت بظهوره على منبر الجامعة الأميركية في بيروت يوم الجمعة 9 حزيران 2023. حين كرمته الجامعة ومنحته شهادة الدكتوراة الفخرية. فما كان من المُكرم وأمام حشد الحضور في الملعب الجامعي الفسيح وتحت الأضواء، أن القى كلمته باللغة العربية، بالرغم من اتقانه اللغة الإنكليزية، وبالرغم أن من سبقوه من خطباء، رطنوا بالانكليزية بلهجتها الأميركية المنسابة والطلقة.
ماذا استرجع الياس وقال في هذه المناسبة الخاصة.
قال في سياق ما قاله يومها: "ذاكرتي مكتظة بأسماء الذين تتلمذت على كتاباتهم، ومنهم تعلمت أن دور المثقف هو أن يكون مستقلاً وحراً، ومدافعاً عن الحق، وصوتاً للمهمشين والمقهورين".
أضاف: كم كنت أتمنى في هذه المناسبة أن أخاطب الخريجات والخريحين، مستعيداً صوت خليل حاوي، الذي مد أضلعه جسراً للعبور "من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد".
لكنني أشعر بأن الكلمات تخونني، فبيروت التي كانت مدينة الشعراء والمغامرين والغرباء واللاجئين، تتشظى في عيوننا.
وأسأل هل نستطيع اليوم أن نجد بيروت في بيروت؟".
عاد فقيدنا في هذه اللحظة المهمة إلى الأساس في حياته، إلى استعادة منطلقات أو أسس الدور الذي شكله وقام به ومارسه وعاشه طوال عمره. أي إلى دور المثقف الملتزم والطليعي، الذي صاغ مفهومه أنطونيو غرامشي، حين تحدث عن "المثقف العضوي" ومارسه وشرحه قبله فلاسفة كثر.
صاغ الياس خوري في تفكيره، معادلة بسيطة. تقول، أنا إنسان ولكي أعيش إنسانيتي يجب أن أكون متماهياً وأميناً للقضايا التي يعيشها شعبي. ولأن قضية فلسطين وشعبها هي القضية الإنسانية الأولى في منطقتي، فأنا أنحاز إلى قضية فلسطين وشعبها وهي في مقدمة أولوياتي.
ولأن صديقنا الراحل، أراد أن يكون منسجماً مع نفسه، ومع قناعاته، فقد التزم بما آمن به. وإذا بالمسيحي الأرثوذكسي ابن الاشرفية، يمتشق بندقيته ويلتحق بالمقاومة الفلسطينية ويسافر إلى حيث عاش وانطلق وعمل الفدائي الفلسطيني الأول، بجانب وجوار فلسطين، حيث حوّل الأقوال إلى أفعال والشعارات إلى ممارسة وخطوات مستقيمة وواضحة الوجهة.
ظن كثر وحتى الأمس، أن الياس خوري فلسطيني الهوية والمولد، وقد تولد هذا الانطباع عنه لشدة ما أخلص وعمل للقضية التي آمن بها وعمل من أجلها. ولعلاقته القريبة مع شخصيتين فلسطينيتين بارزتين في تاريخ الثقافة والفكر الفلسطيني، محمود درويش وإدوارد سعيد.
قال أكثر من مرة، إذا أردت ان أعيش إنسانيتي يجب أن أكون مع فلسطين، لأنها القضية الإنسانية الأولى بالنسبة لي.
حين عاد إلى لبنان من دراسته في فرنسا، في خلال الحرب الأهلية، لم يستطع العودة إلى الاشرفية، بل سكن وعاش مع أطفاله وعائلته في قلب منطقة عائشة بكار، إلى أن وضعت المحنة الداخلية أوزارها، فانزاح الحرم عنه وعاد إلى الأشرفية ومنزل الأهل.
كان الياس خوري يكتب مقالاته في جريدة السفير ضمن زاوية بعنوان "زمن الاحتلال" الذي كان ترسخ عام 1978. ولما انتهت الأزمة وآُقر اتفاق الطائف، أدرك أن الزمن إلى تغير، فانتقل إلى "النهار" لإصدار ملحقها الثقافي، لأن الزمان بات زمن النقاش والانفتاح.
ساهم خوري في تحريك موجة أو حركة ثقافية من مسرح بيروت دفاعاً عن شخصيتها وخصوصيتها وماضيها وتراثها.
بعد الإخلاص لفلسطين وبالتوازي مع عشقها، لم يتردد فقيدنا في الالتزام أو الانحياز إلى باقي القضايا الإنسانية المحيطة، في مقدمها تحريك وتفعيل الأجواء الثقافية في مسرح بيروت، ثم الانحياز ومناصرة كل ما يحمل نفحة تقدم وتجدد وتغيير، وفي مقدمة القضايا الانحياز إلى ربيع دمشق وثورة الشعب السوري، وما أحاطها ورافقها وسبقها من ثورات الربيع العربي.
يكفي صديقي الراحل الياس اسكندر خوري فخراً أن رحيله ولد موجة من الأسى والحزن في لبنان، وسط إحساس بالخسارة الكبيرة، وأن فلسطينيين كثراً اعتبروا رحيله ضربة موجعة، وأن سوريين تألموا لموته وأن مصريين حزنوا عليه.
تميز خوري بميزات كثيرة، لكن أبرزها الابتعاد عن لعب دور مهرج السلطان، أو حمل المبخرة للجلاد، وثقافة البراميل وكاتم الصوت. كما فعل قوميون ويساريون أحفوريون كثر من جيله.
كان الياس خوري في طليعة المساهمين في التحضير لانطلاق حركة اليسار الديمقراطي، كفرع من فروع انتفاضة الاستقلال 2005. إلى جانب سمير قصير ورفاقه، وحين اغتيل الأخير لم يتراجع الياس خوري أو ينكسر. تأمل وأمل من ارهاصات وصيحات انتفاضة شابات وشباب لبنان في 17 تشرين الأول 2019.
في كلمته في الجامعة الأميركية قال الياس خوري: "بيروت مرآة المشرق العربي، والمرآة تحاصرها اليوم عتمة الاستبداد والاحتلال. وتخنقها الطائفية والعنصرية، ويهيمن عليها شبح انهيار اقتصادي وسياسي، وتتفكك في ظل القمع الذي تمارسه طبقة حاكمة أطاحت بالوطن".
ربما أحس أنه سيغادر مدينته قريباً، فوقف على بابها حارساً وكاتباً ومنادياً ومتمسكاً بدوره وموقعه الملتزم الذي انطلق منه، في بدايات مهمته التي أخلص لها ولم يتراجع عنها.
بعد خضوعه لأكثر من عملية جراحية، وانتقاله إلى المنزل، حادثته عبر الهاتف للاطمئنان، فقال إنه إلى تحسن لكن بشكل بطيء. فقلت له "إن الأمر استناداً إلى تجربة شخصية وتجارب آخرين، قد يحتاج إلى وقت ليس بقصير للشفاء والعودة إلى الحياة الطبيعية. فصبراً يا صديقي"، فأجابني "ها أنا صابر ومنتظر هذا الوقت، لكي يأتي".
انصرف الياس إلى الكتابة الأسبوعية عن النكبة والألم والمعنى، فوطنت النفس على لقاء كما كنا في تلك الأيام في جريدة السفير، لكنه ذهب إلى باب المدينة التي عشقها ودافع عنها، يكمل نصيبه في لعب دور حارث الذاكرة الثقافية والفكرية النزيهة التي أحب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها