الخميس 2024/06/13

آخر تحديث: 13:47 (بيروت)

المهم أن لا تفوز إيطاليا

الخميس 2024/06/13
المهم أن لا تفوز إيطاليا
خان يونس، غزة 2014 (Getty)
increase حجم الخط decrease

حدثت بطولة العالم في كرة القدم (المونديال) عام 1982، وبيروت تحت الحصار والقصف الجوي والبري والبحري، بلا كهرباء ولا مياه ولا خبز.

مع ذلك، تابع المقاتلون مجريات البطولة عبر راديوهات الترانساستور الصغيرة، أو عبر تلفزيونات صغيرة تشتغل ببطارية السيارة، حين يتوفر لهم ذلك في المواقع الخلفية. سكان بيروت، وخصوصاً أطفالها وجدوا في مشاهدة المباريات والحماسة المرافقة لها، تسلية فائقة تبعدهم ذهنياً عن أهوال ما يحدث حواليهم، وتنسيهم مخاوف الموت المفاجئ.

كانت تعزيهم بين حين والآخر رؤية علم فلسطين أو علم لبنان في مدرجات المشجعين: هناك من يفكر بنا ويتعاطف معنا. نحن لسنا منسيين. لسنا خارج العالم.

لم يكن الاهتمام والشغف بكرة القدم والانغماس في ما يجري بملاعب البطولة، إغفالاً أو لامبالاة بفظاعات الحرب والقصف الهمجي. بل بدا ذلك "مقاومة" لليأس وحباً بالحياة واتصالاً غريزياً بالعالم وبالزمن. كان ذلك أشبه بالإصرار على اقتناص أي بهجة ممكنة.

كنا بشراً نريد التفوق على الحرب. حتى أننا صدقنا شائعة أن المنتخب الإيطالي الفائز قد أهدى "البطولة" للمقاومة اللبنانية-الفلسطينية، ولبيروت الصامدة بوجه الغزو.

مرة أخرى، فازت إيطاليا بمونديال 2006، وما هي أيام قليلة حتى اندلعت "حرب تموز" التدميرية بامتياز، والتهجيرية إلى أقصى حد. حرب شملت لبنان كله. شعرنا أن فوز إيطاليا هو دليل شؤم، وكأنه إشارة قدرية: انتصار إيطاليا يعني حرباً عندنا.

على نحو ما التصقت كرة القدم بالحرب. بقدر ما التصق شهر حزيران بالحروب الإسرائيلية.

مع اندلاع ثورات الربيع العربي، كان المدهش أن عدداً هائلاً من أطفال ومراهقي وشبان التظاهرات يرتدون قمصان كرة قدم، والأغلب الأعم طغيان اسمي ميسي ورونالدو. كأن جمهور كرة القدم هو عينه من يقوم بالثورات. "المشجعون" تحولوا ثواراً وانتقلوا من الملعب إلى الشارع. بدا ذلك على نحو قوي ومؤثر وعضوي في دور "الألتراس" المصري بميادين الثورة وساحاتها ومواجهاتها العنيفة مع الشرطة. ففي بلدان محظورة السياسة فيها، كان الاحتشاد في الملاعب أشبه بممارسة سياسية، على عكس ما اشتهت السلطات في التشجيع على "الالتهاء بكرة القدم" و"التنفيس" في ملاعبها.

حتى أن مسألة دخول النساء إلى الملاعب في إيران وبعض الدول العربية، كانت ولا تزال "معركة سياسية" بامتياز. وبالطبع لا تُنسى لحظة امتناع المنتخب الإيراني عن أداء النشيد الوطني قبل مباراتهم مع إنكلترا في بطولة كأس العالم 2022، والدموع التي انهمرت لحظتها في المدرجات.. تضامناً مع المتظاهرين الإيرانيين في كل أنحاء البلاد.

أيضاً، ليس صدفة أن يكون لاعب كرة القدم عبد الباسط الساروت أيقونة الثورة السورية. من حراسة المرمى صار "حارس الثورة" ومنشدها وهتّيفها الأول.

في رحلتي إلى غزة عام 2009، كان معظم الأطفال يرتدون قميص نجمهم الكروي المفضل. كان الشوارع الجانبية مليئة بهم وهم يلعبون بالكرة. الصبي المصاب بسرطان في رأسه، والمنتظر عند معبر رفح إذن الدخول إلى مصر للعلاج، كان يرتدي قميص ميسي، قال: كان مريضاً مثلي وأصبح بطلاً.

كرة القدم تملك أيضاً قوة شفائية.

تنطلق الآن بطولة أوروبا في ألمانيا، العالم بملياراته سيتفرج. الحرب في غزة مستمرة، والمواجهات التي تنذر بالحرب في لبنان مستمرة. الموت والتهجير والتدمير.. والرعب والجوع والمهانة، بلا توقف.

مع ذلك سيجد الغزاويون واللبنانيون متسعاً وعذراً لينغمسوا في الفرجة، لاقتناص بهجة عابرة وحماسة عفوية ومجانية. سيجدون مرة أخرى في كرة القدم عزاء ضئيلاً يعينهم على تحمل الويلات.

سننتظر بالتأكيد الصور الآتية من المدرجات لجمهور يرفع علم فلسطين ويهتف ضد الحرب، وضد الفاشية أيضاً. سنسجل بذلك انتصاراً معنوياً جديداً، وسنحب كرة القدم أكثر.

أما ما يهمنا نحن الجمهور اللبناني المتطيّر من وقائع 1982 و2006، فهو ألّا تفوز إيطاليا، حفاظاً على لبنان ودرءاً للشر الإسرائيلي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها