يروي الدكتور كمال خلف الطويل، في كتابه الثاني، الصادر مؤخرا من ثلاثية "عبد الناصر كما حكم" الى "البعث كما حكم"، انه في العام 1976، اتيحت له فرصة اللقاء مع محمد قطب، وهو الأخ الشقيق والاصغر لسيد قطب في دمشق، والذي جزم امامه بيقين ان الرئيس جمال عبد الناصر، قد مات اغتيالا، عبر دس السم له في فنجان قهوة او كوب عصير قدم له في مطار القاهرة خلال وداع الوفود العربية. وذلك بعد قمة المصالحة الشهيرة في العاصمة المصرية، التي كان دعا اليها عبد الناصر لتقريب ذات البين والمصالحة بين ملك الاردن حسين، وياسر عرفات، اثر احداث أيلول الأسود في الأردن في مساء 27 أيلول/سبتمبر 1970.
اصر قطب خلال اللقاء على ان عبد الناصر قد شرب قهوة مسمومة بسم، غير قابل للكشف وهو ما اودى بحياته مباشرة بعد عودته الى المنزل، اثر مغادرة الوفود العربية التي كانت تشارك في قمة القاهرة.
كلام محمد قطب واللقاء به، تم في العام 1976. أي بعد ست سنوات من وفاة عبد الناصر. وبعد ان كان اكد اكثر من طبيب وشاهد وخبير صحي ان الرئيس عبد الناصر توفي بسبب تفاقم ازمته القلبية وحاله الصحية نتيجة تفاعل وتفاقم داء السكري وتأثيره على الشرايين، مع تضخم عضلة القلب، وليس نتيجة أي سبب اخر. والدليل حالة وراثية في العائلة كانت أودت بوالدته وشقيقين واقارب اخرين ومقربين بنفس الطريقة.
الشكوك والنقاشات حول أسباب وفاة الرئيس عبد الناصر، استمرت لسنوات طويلة في مصر، وقد كُتب عنها الكثير وفتحت تحقيقات ومحاكمات بين هدى عبد الناصر وابنة أنور السادات ومحمد حسنين هيكل، الذي عاد وتبنى نظرية اغتياله عن طريق دس السم من قبل السادات...الخ.
مناسبة هذا الحديث اليوم عن الرئيس عبد الناصر، هي وفاة واستشهاد امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، نتيجة الغارة الإسرائيلية المدمرة والخارقة للتحصينات التي استهدفته خلال وجوده في مقر قيادة الحزب في حارة حريك في قلب الضاحية الجنوبية. والتي حملت وتحمل معها اسرارا والغازا كثيرة ستبقى الى امد مقبل طويل تتكشف وتظهر منها خبريات متفرقة، من دون اجابة حاسمة عن كيفية اكتشاف إسرائيل لوجود نصرالله في المكان.
المصادفات التي تحتم الحديث بالجمع بين الرجلين كثيرة، أولها مصادفة غريبة هي ان السيد نصرالله اغتيل بنفس يوم وفاة عبد الناصر، أي مساء يوم الجمعة في 27 أيلول وهو ذات يوم وتوقيت اغتيال السيد نصرالله.
اضف الى ذلك، ان المصادفة جمعت الرجلين في نيل الشهرة والزعامة والتاثير عربيا بعد مواجهات وحروب مع العدو الإسرائيلي، كما ان وفاة عبد الناصر اثارت حزن وسخط وبؤس وارتباك عرب ولبنانيين كثر، تماما بل شملت كل الوطن العربي باغلب سكانه واعدادهم المليونية لتصل الى اكبر جنازات التاريخ الحديث. كما ان اغتيال السيد نصرالله اثار ويثير غضب وسخط وحزن لبنانيين وعربا كثر مع الاخذ بعين الاعتبار الفرق في أعداد المتاثرين في رحيل ناصر ونصرالله نتيجة الفارق العددي بين مصر ولبنان. لكن ما يجمعهما ان غيابهما ترك فراغًا وصدمة وتاثيرًا سياسيًا واستراتيجيًا كبيرًا في مصر وفي لبنان والوطن العربي وفي المواجهة مع اسرائيل عدو الاثنين.
والمصادفة الثالثة، التي تجمع وتحتم الحديث عن الاثنين ان مواجهة عبد الناصر لإسرائيل والتي كانت موعودة بالنصر والفخار المؤكد، خيبت آمال الشعوب العربية واصابتها بالنكسة والصدمة والفاجعة، كما إن حرب المواجهة الأخيرة والمستمرة مع إسرائيل خيبت أيضا آمال كثر من اللبنانيين الذين صدموا وما يزالون لتمكن إسرائيل من اغتيال السيد نصرالله بهذه السهولة واليسر الاجرامي الذي لم يكن متوقعًا على الاطلاق. وتمكنها أيضا من اغتيال وتصفية ابرز قيادات وكوادر الصف الأول وجزء من الثاني من قيادات حزب الله.
مما لاشك فيه، ان اغتيال السيد نصرالله وبالطريقة التي تم بها، شكل ويشكل بالنسبة لكثير من اللبنانيين فاجعة صاعقة وضربة قاتلة لطموح وأمال الكثر من جمهوره ومحبيه والمناهضين لاسرائيل.
والراهن ان الأسئلة التي تطرح وستبقى مطروحة حيال ما جرى أكثر من أي موضوع آخر، اذ انها أسئلة كثيرة ومتعددة من دون أي جواب.
منها على سبيل المثال : لماذا لم يستدرك الحزب مسائل كثيرة كانت سهلة وممكنة الاستدراك. أولها، ان تفجير "البيجر" كان يجب ان يحتم الاستدراك ان من قام بتفخيخ "البيجر" ، قد يكون فخخ أجهزة اللاسلكي "التوكي وكي"، وبالتالي كان يجب وقفهم وعدم استعمالهم في اليوم الثاني، الذي أتاح تفجير أجهزة اللاسلكي وايقاع المزيد من الضحايا. ولماذا كانت هذه الغفلة التي لم يتداركها الحزب.
المسالة الثانية التي تطرح نفسها هي امن وحياة السيد نصرالله نفسه. بمعنى انه كان بالإمكان تدارك الاغتيال المزلزل بقليل من الاستدراك الضروري.
فقد بينت الاحداث قبل اغتيال السيد نصرالله، ان الاختراق الإسرائيلي لامن وهيكلية الحزب متقدم وكبير، بدليل عمليات الاغتيال الناجحة والمتكررة والحساسة التي اصابت قادتهم وابرزها اثنين : اغتيال السيد فؤاد شكر بعد ساعة من مكالمة مع السيد نصرالله، واغتيال قائد فرقة الرضوان إبراهيم عقيل وقيادته اللصيقة في اليوم الثاني لتفجير البيجر بعد ان كان أصيب بها ودخل المستشفى.
عمليات الاغتيال هذه وتكرارها، كانت تحتم اخراج السيد نصرالله من الضاحية الجنوبية وانفاقها الخرسانية الى الانفاق الصخرية التي سبق للحزب ان تفاخر بها في (منشأت عماد 4) وعرض صورها امام الجمهور. اذ من الطبيعي ان يصبح امن السيد نصرالله وسلامته في خطر محدق. خصوصا بعد نشر انباء عن تسليم الولايات المتحدة لإسرائيل قنابل خاصة خارقة للتحصينات، لم تكن توافق على تسليمها سابقا.
هذه القنابل الخارقة سلمت من اميركا لإسرائيل، من اجل هدف واحد، هو اغتيال السيد نصرالله واختراق تحصيناته في الضاحية الجنوبية التي كان يجب ان يستدرك الحزب ويخرجه منها. كما كان يجب ان يستدرك ويوقف استخدام اجهزة التوكي ووكي بعد انفجار أجهزة البيجر قبل يوم.
لكن المثير للدهشة والاشمئزاز استغباء واستهبال الجمهور اللبناني والعربي، هو الكلام الذي صدر عن وكالة تسنيم الإيرانية فور الحديث عن استهداف السيد نصرالله، بالغارة الغاشمة القاتلة. حيث سارعت الوكالة المذكورة للقول: والاعلان، ان السيد نصرالله بخير وهو في مكان آمن! مما ذكر الجمهور وأعاد الى اذهانه صيحات احمد سعيد الشهيرة من اذاعة "صوت العرب" في القاهرة في حزيران عام 1967 حين كان يصرخ "اضرب يا اخي العربي" و"طائراتنا تقصف وتدك تل ابيب" فيما الطيران المصري بمئات الطائرات الجديدة والحديثة انذاك، قد اصبح رمادا على ارض مطارات مصر العسكرية، ولم يبق منها أي اثر سوى الحطام والفحم والتنك المحروق.
كان بإمكان حزب الله، ان يتفكر ويتمهل قليلا، في الأيام التي سبقت الاغتيال الفاجعة، ويبدل من خططه لاستيعاب المتغيرات الظاهرة والجلية، لا ان يستمر بالمكابرة ويوفر على اللبنانيين والعرب شر مقتلة وبهدلة. كان يمكن تلافيها مع قليل من التبصر والتروي والتواضع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها