أما عبارة التنقل بين الأحضان، فكان الأسد قد كرّسها من قبل حين قال "إن سوريا لمن يدافع عنها، أياً كانت جنسيته". وهو بذلك برر حرب التهجير، كما برر الاتهامات التي سيقت بحق النظام سابقاً بسبب حملات التجنيس، أو تكريس الوجود العسكري والاجتماعي للفصائل الخارجية والميليشيات غير السورية التي قاتلت إلى جانبه. فيما التناقض هنا يكمن في استدعاء فصائل من جنسيات أو قوميات مختلفة. وهذا ينطلق أصلاً من فكرة ليبرالية ترتكز على "الإنسان" أياً كان انتماؤه، بخلاف المقاصد التي رمى إليها الأسد، وبخلاف دعوته لرفض الذوبان مع الليبرالية الحديثة.
قتل الثورات
يختصر كلام الأسد في العمق، جوهر الانقسام في المنطقة، وبالعودة إلى صورته الأوسع، والأبعد من كل تفاصيل الصراع الجيوسياسي أو صراع المصالح بين الدول ومشاريعها، وبعيداً من النقاش المستجد حول انتهاء الأحادية القطبية والذهاب إلى عالم متعدد الأقطاب، تبقى الصورة الأعم لهذا الكلام، ترتكز على مسألة رفض كل ما له علاقة بالثورات، وهي التي تصفها أنظمة كثيرة في الشرق بأنها ثورات ملونة هدفها إسقاط الأنظمة والدول في سبيل دمقرطة العالم. ما قاله الأسد بوضوح أن العالم ينقسم إلى عالمين، العالم الغربي الذي يرتكز على الديمقراطية والليبرالية ويسعى إلى تعميمها عالمياً. والعالم الشرقي الذي يرفض ذلك ويسعى للدفاع عن حدوده وأنظمته، ولو اقتضى ذلك مواجهة الشعوب أو إغراقها في بحور من الدماء. فالتصدي للثورات الملونة ولمشروع دمقرطة العالم هو السبب نفسه الذي دفع فلاديمير بوتين إلى شن الحرب على أوكرانيا، وهو مرتكز أساسي أيضاً لدى الصين.
الخليج وبلاد الشام
وبعيداً، عن كل هذا النقاش النظري، والذي على ما يبدو أن العالم سيقيم لسنوات طويلة في صراعه، على قاعدة الإدعاء ببروز ثنائية قطبية أو عالم متعدد الأقطاب، وتقديم تصورات جديدة بالذهاب إلى حرب باردة بين العالمين. يبقى هناك أساس لا يمكن إغفاله بما يتعلق في هذه المنطقة، وإنطلاقاً من القمة العربية والتي شارك فيها الأسد كما شارك فيها لبنان. فاستدعى كلام الأسد تعليقاً، فيما الموقف اللبناني الباهت والمتكرر والفائم على الاستجداء ليس ذا قيمة للمتابعة. فيما الصورة التي لا بد من تقديمها بوضوح، تنطلق من قاعدة أساسية وهي زمن التقدم والتحديث في الخليج العربي، في مقابل زمن التدهور والرجعية في بلاد الشام. وهذه حقيقة لم يعد بالإمكان إغفالها، خصوصاً أنه طوال السنوات الماضية ارتكز عرب الشام مع مصر على تقديم خطابات خشبية ترتكز على مسألة تقدميتهم في مواجهة "الأنظمة الرجعية" وهم يقصدون دول الخليج. حالياً، أصبح لا بد من القول إن الآية انقلبت على قاعدة إطلاق دول الخليج لعصر الحداثة فيها، مقابل غرق عرب الشام في أزماتهم الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية والعرقية والقومية والدينية.
وهذه الخلاصة، تقود إلى نتيجة واحدة، أن دول الخليج والتي تبحث عن الاستقرار وتصفير المشاكل، بهدف تعزيز مواقعها الاقتصادية وتوسيع هوامش استثماراتها، لجأت إلى هذه السياسة في سبيل تحقيق ذلك، وليس كما يتوهم البعض بأنها تصطف في صالح طرف على حساب الطرف الآخر، او في سبيل إحياء مشروع سياسي مشرقي، أو عربي، لإعادة تثبيت مرتكزات سياسية متوازنة في المنطقة. جلّ المشروع يرتكز على ضمان الاستقرار لتوسيع هامش الاستثمار، ما يعني ضمان أمن الداخل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وضمان الأمن القومي في المحيط، بالمعنى العسكري، من خلال وقف الحروب والمعارك، وليس في سبيل الدفاع عن الآخرين أو خوض معاركهم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها