السقوط الشامل
تقود الولايات المتحدة الأميركية سياسة إسقاط عام للقضية الفلسطينية. وإذ تفعل ذلك، فإنها تفضح سقوط كل "أخلاقيات" التأسيس التي قامت عليها، وانتدبت نفسها لقيادة العالم الحر باسمها. تعيين موقع الولايات المتحدة في منظومة القيم العالمية مسألة واجبة، إذ مع اهتزاز القيم وسقوطها، ومع تداعي بنيان الأخلاق في السياسة، ومع تبخُّر "الفلسفة الغربية" العقلانية والعلمانية والوضعية والمادية، ومع امحاء المنافسة بين اشتراكيات مادية وطوباوية، مع كل ذلك وبعد، احتلت "أميركا" تباعاً موقع العداوة مع الشعوب، وتقدمت صفوف المعتدين على الحقوق العربية المشروعة، وعلى مصائر العرب وسبل تقدمهم، ونابت عن حليفتها البريطانية في رعاية وحماية الكيان الغاصب الذي زُرع قهراً وزوراً في تربة فلسطين، بانت السياسة الأميركية عارية من دون قيمها، فصارت قوة تدخل لمؤازرة كل نظام قمعي، وباتت فلسفتها "دمقرطة" عسكرية كاذبة، وآلت مع رئيسها الحالي، دونالد ترامب، إلى دولة جابية للضرائب، وفارضة للأتاوات، ومنظّمة للصراعات بين دول عديدة، وراعية للتوازنات التدميرية بين فرقاء الصراع. من حقوق الإنسان، إلى معاداة التطلعات الإنسانية، تلك هي خلاصة رحلة السياسات الأميركية منذ تحرير أميركا الشمالية، وحتى لحظة سياسة تكريس استعباد الفلسطينيين والعرب منهم، من خلال صفقة القرن التي تحمل كل مواصفات تصفية القضية الفلسطينية، بما هي قضية أرض وشعب وحقوق مشروعة وحق تقرير سيادة ومصير.
سقوط النصير الشيوعي
ساهم ما كان اسمه الاتحاد السوفياتي سابقاً، ومنظومته التي تدور في فلكه، في محاصرة انطلاق المسألة الفلسطينية والعربية إلى مداها. وقد كانت المنظومة تلك، من الذين اعترفوا باكراً باغتصاب فلسطين، خصوصاً السوفيات الذين أخذتهم قراءتهم "التاريخانية" العمالوية إلى افتراض حمل الحضارة والاشتراكية إلى البلاد العربية المتخلفة، من خلال اليهود أبناء المستوطنات الزراعية، الذين توسَّم فيهم سوفيات ذلك الزمان بناة اشتراكية جديدة في بقعة جديدة من الأرض، يدخلونها في حسابات نفوذهم وتمددهم، بعد حقبة الحرب العالمية الثانية ونتائجها التوزعية كمغانم بين الأطراف المنتصرين.
نقطة مركز تلك السياسة كانت إدارة الصراع مع "الإمبريالية العالمية"، وضبط سقف المعارك الناجمة عنه تحت سقف المصالح، التي تقتضيها مصالح "المركز الاشتراكي"، واعتماد لعبة الشطرنج مع المنافس الرأسمالي، بحيث تكون الخسارة في بلاد العرب، ويكون التعويض عنها في أميركا اللاتينية أو في قارة أفريقيا.. بيدق هنا في مقابل بيدقٍ هناك، وتستمر اللعبة، ثم تتوقف بانهيار الاتحاد السوفياتي الذي رفض أركانه إرسال باخرة ترفع علمه، عندما كانت بيروت محاصرة بالعدوان الصهيوني عام 1982.
خلاصة القول: لم يكن دعم "الاشتراكيين الأمميين" مبدئياً في فلسطين، ولا في البلاد العربية، التي اقترحوا لها نظرية "التطور اللارأسمالي نحو الاشتراكية"، فغضوا الطرف عن قمعها وعن أنظمتها البوليسية، ولم يسألوها عن مطاردة وسجن وقتل الشيوعيين العرب، الذين قالوا قول "المركز الأممي" واستجابوا لنداء مهماته وأولوياته.
السقوط القومي العربي
حسابات المصالح التي قادت السياسات العالمية، لم تقابلها الأنظمة التي اتخذت صفة التقدمية بحسابات مصالح شعبية ووطنية وقومية مماثلة. لذلك كانت صورة الوضع العربي أحادية الاتجاه سياسياً، أي التقاء الداخلي العربي والخارجي العالمي ضمن دائرة التبعية، حيث مارس الخارج سيطرته واستتباعه، وأدار الداخل خضوعه والتحاقهم. حصيلة سياسات التابع والمتبوع، تركيز أنظمة قمعية قوية في كل داخل عربي، وتوجيه قوة كل نظام ضد شعبه، بالاستناد إلى الدعم الذي يتلقاه من منظومة النهب العالمية. في هذا الإطار، دعم القطبان السوفياتي والأميركي حلفاءهما في كل داخل، ولم يكن مطلوباً من كل نظام حليف أكثر من الاستقرار في تبعيته لهذا الطرف أو ذاك. أين كانت فلسطين في حسابات أنظمة "القومية العربية"؟ كانت مرمية في غرف العتم عملياً، وحاضرة في عين الضوء إعلامياً، وباسمها تعلو الأصوات الإيديولوجية فارغة من كل معنى، ولا تحيل إلى أي مضمون. لقد استُنزفت القضية الفلسطينية توظيفاً واستثماراً من قبل الأنظمة العربية، وماتت ببطء في أذهان القوميين والاشتراكيين والشيوعيين العرب، الذين تكلست قرائحهم القومية، خصوصاً بعد هزيمة عام 1967، ثم تماهوا مع أوضاعهم الرديئة التي هندس بناءها كل نظام "تقدمي عربي" على طريقته. إذن، محاولة تصفية قضية فلسطين اليوم، بدأت أيضاً مع أفول الخط القومي العربي، ومع تبعثر اليسار العروبي بكل منوعاته، لذلك فلا ضرورة "لبكائية" عرب أضاعوا "أندلساً فلسطينياً، لم يحافظوا عليه مثل الرجال".
المأزق الفلسطيني
على عكس سياسة الجلد التي تشهر سوطها عندما يتعلق الأمر بنقاش المسائل الداخلية الفلسطينية، ينبغي التدقيق في كل الظروف الخارجية التي حاصرت الشعب الفلسطيني، والتدقيق أيضاً في علاقة الداخل – الخارج، التي حكمت الكتلة الفلسطينية الموزعة بين جزء في الداخل المحتل وأجزاء في الشتات.
وفي معاندة سياسة النعامة التي دأب عليها "المفكرون القوميون" اللاحقون في كتابتهم عن الأنظمة العربية، يقتضي الأمر إسقاط كل الأقنعة عن هذه الأنظمة ومحبذيها والمروجين لها. وفي الحالتين، تفترض المسؤولية مع الشعب الفلسطيني وعنه أيضاً، ودائماً من موقع أبناء العروبة الجامعة، عدم الانسياق إلى التبرير بحيث تعطى السياسات الفلسطينية كلها، وعلى امتداد كامل الحقبات الصراعية، علامات جيدة جداً، وتقدير لقد "فعل الفلسطينيون ما يمكن فعله"، وأنهم حارسوا سياسة "فن الممكن" في كل مسيرتهم الكفاحية.
من منصة الفلسطينية النضالية، ومن فوق أرضها الصراعية، يجب إعطاء أولوية لمراجعة سياسية شاملة، تتناول الوطنية الفلسطينية وحركتها، وخصوصاً بعد انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1967. السؤال عن حركة التحرر الوطني الفلسطيني، يتضمن طلب الأجوبة الواقعية عن خلاصات التجربة في الأردن، وفي لبنان، وفي المنافي وقبل أوسلو وبعده، وصولاً إلى اللحظة المصيرية الخطيرة الحالية التي تقودها سياسة ترامب التصفوية.
عمر التجربة تلك، احتل الإسلام السياسي فيه دوراً بارزاً بعد ثمانينيات القرن الماضي، لذلك، فإن أداء هذا الإسلام معروض للنقد من دون قفازات، وعلى النقد أن يتناول شعار الإسلامويات في فلسطين، وشعارات مثيلاتها خارج فلسطين، من دول غير عربية مثل الجمهورية الإسلامية في إيران، ومثل الجمهورية التركية، ومثل دول عربية تدعم التوجهات "الإسلامية" سرّاً وتنفي دعمها علناً. على سبيل الانتباه، لقد ألحقت سياسات الخارج الإسلامي ضرراً فادحاً بالقضية الفلسطينية، خصوصاً، عندما قسمت الشعب الفلسطيني وهددت وحدة كفاحه، وعندما عبثت بمطلب استقلاليته، فزرعت بين صفوفه حركات وتنظيمات تأخذ ببرامجها، وتنفذ سياساتها، وتدين لها بالولاء، في مقابل دعم مالي جعل أكثرها فصائل سياسية فلسطينية الهوية، خارجية الهوى.
الجديد والتكرار
ذكر محطات من السردية العربية والفلسطينية والعالمية، مفيد في معرض الدعوة إلى عدم اختبار وتجريب المجرّب، ومفيد وضروري في تلمّس عناوين الردود الواقعية والمهمات الوطنية التي تضيف إلى مصالح الشعب الفلسطيني، ولا تبدِّد ما حصّله منها.
من التكرار المفيد، أن وحدة الفلسطينيين هي حصن حصانتهم الأمين والمنيع، لذلك يجب توجيه الانتباه إلى إعادة صياغة هذه الوحدة، والمسارعة إلى طلب كف يد كل خارج إسلامي أو عربي عن التلاعب بعوامل هذه الوحدة، طلباً لدور لا يستطيعه، أو لموقع لا يستحقه، عربياً أو فلسطينياً. معركة الوحدة ليست سهلة كما يظن المتفائلون.
ومن المفيد التذكير بأن العروبة ستظل الحاضنة الأهم للمسألة الفلسطينية، هذا بغض النظر عن الأنظمة العربية التي زعزعت ركائز كل الروابط القومية.
وكما كانت الحال على الدوام، سيظل الشعب الفلسطيني هو ركيزة كل عون من خارج محيطه، وركيزة كل رفض لما يحاك لقضيته من تصفية، وركيزة كل تصدٍّ وطني وسياسي وأخلاقي، عندما يتعلق الأمر بمخاطبة "الأخلاق العالمية".
خلاصة أخيرة
يعود للشعب الفلسطيني وقيادته، أمر تحديد الممكن صراعياً، وأمر الإجراءات العاجلة سياسياً وميدانياً، وأمر تقدير الموقف الذي يتضمن دراسة الاستعداد في الداخل الفلسطيني واحتمالاته، وأمر الرد العدواني للمحتل وإجراءاته، وأمر العقبات العالمية والعربية، إن وُجدت، التي قد تعرقل صفقة ترامب وتكبح جماح الكيان الصهيوني الغاصب.. بإيجاز: ما سيقدم عليه الفلسطينيون يعادل في خطورته خطورة ما قد يُفرض عليهم، لذلك لا تسرّع ولا استخفاف ولا تهور في صياغة السياسات.. وهذا ونقيضه من العقلانية والحكمة والشجاعة، تتقنه القيادة الفلسطينية الشجاعة، المسؤولة عن شعب الجبارين.. شعب الشجعان، الذي يجب أن تلتف حول قضيته كل حركة قومية عربية علمانية جديدة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها