لقد حل زمن الظلمات يا سمير، والربيع بعيد جداً من هنا..
كلاب بأسنان ذئاب تنهش لحوم بشر.. كلاب بلا أذيال ترقص فوق الجثث.. كلاب تقتل وتشرب الدماء وتعانق أديانها بحثاً عن الجنة ورضى من ماتوا قبل آلاف الأعوام.
يا سمير، لا الربيع حل في دمشق ولا الديموقراطية أتت مع الحلم، فقط جزمة العسكر بقيت هناك تعتقل الطلاب والناشطين وتسفك دمهم وتخفيهم في المعتقلات.. عسكر يطلق سراح قادة القاعدة ليبشروا بدواعشهم من أنبار العراق إلى الداخل السوري، عسكر يطلق زهران علوش والبغدادي والجولاني، ويقتل شباب مخيم اليرموك وأطفاله.. يطلق المجرمين ليختطفوا رزان زيتونة ورفاقها..
أتذكر رزان يا سمير؟ تلك المناضلة السلمية التي اختفت كما اختفى الشعب السوري كله. هكذا لم يبق سوري واحد على وجه هذه الأرض، والصامتون كثر.. والمخيمات صارت أكبر وأوسع ومترامية الأطراف.
بحر من دماء، وعشرات آلاف المخطوفين.. وسلاح منتشر، ومقاومة تذكرت أن دورها الأساس حفظ حزب البعث بتاريخه الأسود حتى ترث اللون منه.. مقاومة تقصف الناس بدم بارد، دفاعاً عن القدس في اليرموك والمليحة وداريا يا سمير.
أتتذكر يا سمير يوم تأسيس ”الحركة“ (حركة اليسار الديموقراطي) كيف كنا وحدنا في شارع الحمرا وحضر معنا الحلفاء.. ويوم موتك جاء أصدقاؤك من سوريا. كانوا يدركون أن السفاح نفسه وحلفاءه هم من قتلك، بكوا عليك ورحلوا إلى التحقيق في فرع فلسطين.
يا سمير لم نعد من كنا، ولا عادت فلسطين خط الدفاع الأول عن الأحرار في العالم العربي، يسكنها الصمت من رام الله إلى القدس وحيفا والجولان.. صامتون عن المجزرة كما صمت كثر يوم مقتلك.
بعد تسعة أعوام، هل تتذكر طعم الموت؟ هكذا مثلك يموت المئات يوميا في سوريا.. يقتلهم آل الأسد وآل داعش وآل المقاومة.
لم نعد كما كنا.. تفرقنا وهربنا، ومتنا جثة جثة.. وصرنا ١٦٠ آلفاً أو مئتي ألف لا أحد يعلم.. وانتشرنا نقاط دم خلف كل زاوية، وهرمنا سريعاً، وصرنا نبيع الجسد بثمن وجبة طعام.. سمعنا المقتولين هناك يصرخون فصمتنا، خوفاً من أن يتعرف إلينا القاتل ويجدنا مثلما وجدك وفجرك قبل تسعة أعوام. القاتل الذي لطخ البعض منا يديه بيديه.
يا سمير، لا تصدق أن الغد سيحمل بعضاً من الأمل.. الاحباط قدرنا.. هنا أو تحت التراب.. وأجمل ما في الاحباط أنه أصدق من الساسة ومن أصحاب الحوارات ومن منتظري التعليمات الخارجية وكذلك من المجلس النيابي الذي يتحول كل يوم إلى حصان للسباق لدى التعليمة القادمة.
قبل أعوام تسعة وفي شهر أيار دعوت لانتفاضة في الانتفاضة، كان الأمر يحتاج إلى أكثر من دعوة، كانت الفرص تضيع وتذهب، ويتحول من هم حلفاء إلى معاونين للمجرم. يوم قتلك نسي أحدهم من أنت، ويوضاسه باعك عند المساء معتبراً أن موتك أمر يجب التحقيق فيه، وقبض ثمنها مبالغ طائلة.. كما يقبض اليوم ثمن تجارة النفط.
هل تصدق يا سمير أنهم وجدوا نفطاً في بحر لبنان، نفط يا سمير.
ومعنا أكثر من مليوني نازح سوري ذهب قلة منهم إلى السفارة السورية لانتخاب رئيس لبلادهم، هل تصدق هذه الديموقراطية الرائعة. مثلما يلتحق أبناء المقاومة بالأسد ويقتلون ويموتون كما يموت كل شيء في تلك الأرض..
الياسمين والحرية والديموقراطية قتلها السلاح.. في سوريا البراميل المتفجرة هي التي تقرر مصير البيوت والناس، والكيمياوي ويخطف أرواح الأطفال، ويبقى العالم متفرجاً ببلاهته المعهودة التي عرفناها.
أتذكر يوم ذبح صدام حسين العراقيين في جنوب العراق، وحين رمى الكيمياوي على الكورد، وقف يومها العالم ببلاهته صامتاً عن الفعل.. هكذا هو الحال في سوريا. ولكن زيادة فوق التشابه بين جرائم صدام وبشار أن هنا مجرمين من لبنان بلدك، يشاركون في المقتلة هناك، يرقصون فوق الجثث فرحين كلما قتلوا واحداً أو عشرة أو مئة، يشبهون البعث في كل شيء، بعث الأسد وبعث صدام حسين.
لا أتذكر شيئاً من يوم قتلك، فاروق يقول إننا ركضنا من المصيطبة إلى الأشرفية.. وأنا لا أتذكر.. أسمع صوت يوضاس يقول في المساء إن اغتيالك أمر غير مؤكد... فلا أتذكر ذلك الصوت، يرد عليه جبران تويني، ولكن يوضاس لا يصمت، يستمر بالصراخ ليثبت أن موتك أتى صدفة مثلما قتل من هم قبلك وبعدك صدفة.
لكن، يا سمير، التحقيق الدولي صار محكمة، والمحكمة أعلنت بعض الأسماء، وأعتقد أنك لن تستغرب حين تسمع أن هذه الأسماء ستموت قريباً خلال المجازر في سوريا.
للقاتل أعوان وعيون وكلاب حراسة ليلية موجودون بيننا، يهددون ويتمادون في تهديدهم.. هل تعلم لماذا؟ لأنهم يدركون أن ربيع دمشق مهما تأخر فسيأتي.. يقترب هذا الربيع المتأخر، ليزيح مجرمهم الأكبر.. إلى الأبد.