قبل انتخابات رئاسة الائتلاف الاخيرة ، ساد ميل قوي لدى معظم أعضائه وكتله إلى التوافق، الذي بدا ككلمة سحرية انتشرت في الأجواء وعلى الألسن انتشار النار في الهشيم. بعد عامين حفلا بشتى أنواع الخلافات والحزازات الشخصية والعامة ، ظهر وكأن الائتلاف قرر الانعطاف نحو طور جديد ستتسم علاقاته فيه بتوافق هو التعبير عن قرار جماعي بكسر حدة التباين بين كتلتين رئيستين فيه ، إحداهما معارضة أو "معادية" وضع اسمي فيها ، التفت حول الاستاذ مصطفى الصباغ ، الذي اعتبر "رجل قطر" ، وثانيتهما موالية قطبها الاستاذ أحمد الجربا ، رئيس الائتلاف ، الذي اعتبر "رجل السعودية ". بهذا المعنى ، كانت الرغبة في تخطي خلافات الكتلتين الداخليتين تعبيرا عن الرغبة في تخطي خلافات الدولتين الشقيقتين ، اللتين افتُرض خطأ أن مواقفهما وحساباتهما تتطابق مع مواقف وحسابات الاستاذين الصباغ والجربا .
وكانت تجربة توافق أولى قد تمت خلال اجتماع الهيئة العامة الاسبق ، فقد التقى ممثلو الكتل طيلة يوم كامل، وتوافقوا على إجراء انتخابات هيئة سياسية يمثل المرشحون إليها جميع الأطراف ولا يمثل أي منهم كتلة بعينها، ويتبنون برنامج عمل ليس برنامج أي طرف منها . في هذا السياق ، طلب من الاستاذ فايز سارة وضع لائحة بالمرشحين قدمها بعد ساعات إلى الاجتماع ، الذي قدمها إلى الهيئة العامة ، مشفوعة بدعم صريح من ممثلي الكتل المختلفة ، الذين شرحوا ما تم التوافق عليه ، وطلبوا أن يكون التصويت علنيا تأكيدا لالتزامهم بالقائمة الموحدة ، التي لا يجوز ان يكون هناك مرشحون من خارجها . لكن الجربا ، الذي أيد التوافق ظاهريا وعارضه فعليا ، رشح اثنين من خارج القائمة ، مفسحا المجال لاختراقها وعدم التزام رافضي التوافق بها ، فكانت النتيجة أن دفع التيار الديمقراطي ثمن التوافق، إذا سقط اثنان من مرشحيه ، وشنت حملة شعواء على شبح اسموه " الطرف الآخر "،بحجة أن انصاره لم يلتزموا بالتوافق، واستنتج القائمون بالحملة أن مبدأ التوافق نفسه باطل، ومن المحال أن يفضي إلى نتيجة مغايرة للنتيجة التي قاد إليها : سقوط ممثلين للتيار الديمقراطي .
لكن النفخ في نار الخلافات لم يقوض الرغبة في التوافق ، مبدأ وممارسة ، بعد نقاشات واسعة في الائتلاف والهيئة الاستشارية ، التي كان الاجتماع التوافقي قد اقترحها ،
لكن الجربا رفض الاعتراف بشرعيتها والتعامل معها ، لذلك اجتمعت في غيابه ، عقب فشل محاولة لاقناعه بدعوتها إلى لقاء يسبق انتخابات هيئة الرئاسة الجديدة قام بها الاستاذ موفق نيربيه. وقد توافقت الهيئة ، التي اسمت نفسها " اللقاء التشاوري" كي لا تتبنى اسما مستفزا للجربا، على برنامج من أحدى عشرة نقطة هدفه تطبيع علاقات الائتلاف الداخلية ، وتحسين أدائه ، واستعادة أولويات الثورة ، وضبط ما قد يظهر من نزعات لدى قياداته إلى التفرد والاستئثار. حدث هذا لطي صفحة كئيبة قوضت فعليا قدرة الائتلاف على الفعل كمؤسسة عمل وطني، ولإقناع قواعده بالبرنامج وبمبدأ التوافق، خاصة وانه تبين خلال انتخابات الهيئة السياسية أن تفاهم ممثلي الكتل لا يعني بالضرورة اقتناع قواعدها به ، وأن من المهم إرساء توافقهم على تأييد اعضاء الائتلاف: الضمانة الوحيدة لتنفيذ ما توافقوا عليه. اما قصد البرنامج ،فكان تقوية الائتلاف كجسم وطني وكبح نزعات التفرد التي قد تظهر عند قادته وتجعلهم يتبنون نمطا من الإدارة تتولاه مطابخ سرية يلحق نشاطها المغلق ضررا لا يحتمل بالشعب والثورة .
هذا الخط في العمل تبنته " الكتلة الديمقراطية " بعد أن ترجمته إلى نص اقترحته عليها، كان اللقاء التشاوري قد تبناه ،تدور فكرته الرئيسة حول عدم جواز إيكال تنفيذ البرنامج الديمقراطي إلى أي شخص، بعد تجربة "القائمة الديمقراطية" والائتلاف مع الجربا، واعطاء الأولوية في عملنا لمحددات تضبط عمل الائتلاف كمؤسسة وطنية، وتضع معايير دقيقة يقاس بها سلوك قادته ، فإن حادوا عنها نزعت الثقة منهم، التي ستكون مشروطة وتلزمهم بسياسات محددة ونهج تشاركي ، وتمنعهم من استغلال آليات التعطيل الموجودة في نظام الائتلاف الأساسي- الذي قررنا تغييره في اقرب وقت- ، والإفادة من موارد مالية يتصرفون بها على هواهم، تعينهم على انتهاج طرق مجافية للديمقراطية واستبدادية ، في إدارة الائتلاف .
عندما فاز موفق نيربيه بترشيح "الكتلة الديمقراطية" ، خال الجميع ان الامور شرعت أخيرا تذهب في الاتجاه الصحيح ، فالتوافق قائم من تحت إلى فوق ، والبرنامج هو الاساس، ومن يقبل به يكون مرشح الائتلاف ، فإن كان هناك اكثر من مرشح تم اختيار اكثرهم خبرة وتجرية وتاريخا نضاليا، والمحددات الوطنية لعمل الائتلاف ستكون ضابط وجوده من الآن فصاعدا ، وستتيح الفترة القادمة لنا لحظة تنفس نراجع خلالها ونحن موحدين ومتوافقين مواقفنا ونطور خياراتنا ونصلح ما فسد من امورنا ، ونعيد بناء العمل الوطني على الاسس ،التي كان يجب أن يقوم عليها منذ بداياته الأولى .
فجأة ، حدث ما لم يكن متوقعا ، فقد رفض الجربا ترشيح موفق واقترح بدلا منه هادي البحرة ، وفرضه على الكتلة بمعونة رئيسها الاستاذ فايز سارة . حدث هذا إبان تفاهم الاستاذين الجربا وصباغ على محاصصة من النمط الذي شل الائتلاف وشحنه بمختلف انواع التناقضات وابعده عن الشعب وعطل دوره الوطني . وقد زعما أن الوضع الدولي لا يقبل رئيسا للائتلاف غير هادي البحرة – وهو زعم كان يجب أن يكون كافيا وحده لاخراج البحرة من الائتلاف بدل انتخابه رئيسا له - ! ، وأن رؤساء الكتل في الائتلاف لا يقبلون غيره – تم استبعاد هؤلاء جميعهم من أي تمثيل بعد الاتفاق بين الرجلين !، وأن تفاهمها يضع حدا للخلاف القطري / السعودي ، حسب تصريح للاستاذ الصباغ - في هذا القول ما فيه من ادعاء بأن الجربا هو السعودية والصباغ هو قطر، وأن خلافاتهما هي السبب في خلافات البلدين ، التي ستنتهي بانتهائها !. لا عجب أن ادى الاتفاق إلى استبعاد كل من عمل في السياسة الحزبية والوطنية خلال الفترة الأطول من تاريخ بلادنا السابق للثورة ، وأن الائتلاف سقط بين يدي شخصين يعملان بوحي خارجي، وان اتفاقهما الشخصي حدث في فترة سقوط متتابع لمناطق واسعة من سورية في ايدي النظام و"داعش" ، بينما يسود ضرب من إدارة دولية للأزمة يحول قضيتنا إلى مسألة فرعية تندرج في وضع عام مفتوح على جميع الاحتمالات السيئة : خليجيا وإيرانيا وتركيا ودوليا.
بسقوط التوافق تحت ضربات من كان يجب أن يحرصوا عليه حرصهم على أداة لا غنى عنها في العمل السياسي والثوري ، اهتزت أوضاع الائتلاف وشرع يترنح ، ووجد نفسه أمام تحد جديد يضاف إلى مأزقه العصيب ، هو سقوطه في أيدي شخصين يتحكم احدهما بمصيره وقراراته ، من خلال تحكمه برئيسه الجديد ،بينما سيكتفي الثاني بمساندته أو ستتم تنحيته جانبا ، فلا بد أن يعجز الأول، رئيسه الحقيقي، عن قيادة شعب سورية ، ويغرقه في حقبة يكون همه الرئيس فيها التلاعب بقضايا الثورة ، في لحظة ستخلو من كل شيء إلا من خلافاتهما وصراعاتهما الخفية والظاهرة ، التي أكدها نجاح هادي البحرة باصوات الصباغ ، وسقوط الخوجا ، مرشح الصباغ، في انتخابات الامانة العامة بأصوات الجربا !.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث