صحيح أن خطاب أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله، هو الكلام الفصل لجهة تحديد الآتي في الميدان والسياسة، لا سيما بعد الضربتين الاسرائيليتين على الضاحية الجنوبية لبيروت وطهران، لاغتيال القائد العسكري فؤاد شكر (السيد محسن) ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنيّة، تباعاً. لكن، لفهم التحولات الحاصلة في لبنان، علينا أيضاً التأمل في ما يأتي على لسان وزير الخارجية عبد الله بو حبيب عبر وسائل الإعلام.
بيد أن بو حبيب يُجسّد اليوم حال الدولة اللبنانية، وهي في ذروة ضعفها. يجمع في تصريحاته بين الرد على تهديد إسرائيل، بتهديدات مقابلة، كمثل إعادتها للعصر الحجري أو مواجهتها بحرب إقليمية، وبين "لا أعرف" أو "نحن خائفون من جرّنا لحرب إقليمية" أو "نتمنى أن يكون رد حزب الله متناسقاً"... يتأرجح الرجل بين التعبير بقوة عن خط "حزب الله" في السياسة الخارجية، وبسقف عالٍ، وبين تعابير التمني والعجز التي تُبرز بصدق واقع الحال في البلاد. هو قوي في التعبير عن حزب الله، وضعيف حين يتحدث باسم الدولة. وهذه الدولة ضعيفة، لا لأنها تُعاني ضغوط "حزب الله" وخياراته فحسب، بل لأنها أيضاً اهترأت بفعل سنوات الأزمة المالية والاقتصادية والسياسية.
هذه صورة المسؤول اللبناني والدولة التي يُعبّر عنها وزير الخارجية اليوم. بو حبيب ينقل إرادة الحزب ويتمايز بتمنيات خجولة. في المقابل، هناك من يصقل الواقع السياسي اللبناني لسنوات مقبلة وبسرعة لم نعهد مثلها.
ذلك أن نصر الله، رسم خلال الشهور الماضية من الحرب، خطوطاً عريضة، بدءاً من الدخول في المواجهة في اليوم التالي لهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، لإسناد غزة والتضامن معها، ومن ثم الإعلان عن مرحلة جديدة عسكرياً بعد الاعتداء على السفارة الإيرانية في دمشق، وانتهاء بالخطاب الأخير. في كلام أمس الخميس، تحوّلت المواجهة من حرب إسناد وتضامن الى مواجهة مفتوحة بالتنسيق مع حلفاء حزب الله في الإقليم.
ماذا يعني ذلك؟ لم تعد "وحدة الساحات" فقط إعلاناً تكتيكياً لإخافة الأعداء وردعهم، بل باتت ركناً مقدساً تستمر الحرب من أجله، ويستحق التضحيات الكبيرة المبذولة حالياً. جماعة "الحوثي" تتلقى ضربات نارية في الحُديدة، لكنها تُواصل المواجهة والتضييق على إسرائيل وحلفائها نُصرةً لقطاع غزة، وكذلك ميليشيات عراقية حليفة.
"حزب الله" رفض مرات، وبشكل جازم، الفصل بين الجبهات، وهو يقترب من ذكرى عام على انطلاق الحرب، رغم كلفتها العالية في الاقتصاد المُنهَك أصلاً نتيجة سنوات من الانهيار. باتت "وحدة الساحات" رُكناً في السياسة، يُشبه الى حد ما ثلاثية "شعب جيش مقاومة" التي أُدخلت كنص مقدس في كل البيانات الوزارية السابقة. ربما صار لزاماً علينا اليوم تعديلها لتصير "جيش شعب مقاومة لبنانية وفلسطينية وعراقية ويمنية وسورية وإيرانية". الواقع اللبناني الآن يُذكّر بتلك الطرفة السينمائية عن سائق شاحنة توقف على جانب الطريق ليقلّ فاتنة أشّرت له بيدها، ليُفاجأ بعدها بعائلة كاملة كانت تختبئ خلفها وركبت معها، وصار السائق بين هذا الجمع ضيفاً مُربكاً ومأموراً في شاحنته.
المطلوب منّا في هذه الحرب، ليس فقط التركيز على يومياتها وتحول قواعد الاشتباك وأشكال الرد على خرقها هنا وهناك، بل التأمل في تحولات متسارعة جداً في الأمن والسياسة والعلاقات الخارجية. الحرب ستارة تُخفي ورشة عمل، وحين تُسدَل مع وقف النار، سنجد أمامنا متغيرات عديدة، بدءاً من تشكيلة الميليشيات المقيمة بيننا، وهي ستكون جزءاً من المشهد الأمني والسياسي، وانتهاء بالحلف الإقليمي الذي انخرطنا فيه. ويحصل ذلك كله فوق دولة هشّة تهترئ نتيجة الإهمال والافلاس، ويبدو من سلوك وزير الخارجية أنها تأخذ شكل من يُلقي بثقله عليها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها