الأربعاء 2024/07/24

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

البيان الذي قتل مرهج الجرماني

الأربعاء 2024/07/24
البيان الذي قتل مرهج الجرماني
مرهج الجرماني في أحد تجمعات حراك السويداء (أرشيف صفحة السويداء 24)
increase حجم الخط decrease
بعد أسبوع من اغتيال قائد "لواء الجبل"، مرهج الجرماني، تم الإفراج، الثلاثاء، عن ضابطين وثلاثة عناصر من قوات الأسد وأجهزته الأمنية في عملية غامضة. الرهائن كانوا في حوزة فصيل "تجمع القوى المحلية" في السويداء بعد احتجازهم منذ حوالى أسبوعين، بهدف تحرير ثلاثة معتقلين من أبناء السويداء احتُجزوا مؤخراً "خارج السويداء" لدى مخابرات الأسد. الصفحات المحلية نقلت عن مصدر أمني القول أنه جرى تحرير الخمسة بالتعاون مع بعض الأهالي، بينما تسرّب عن أوساط الفصيل المذكور القول أن أحد المكلفين بحراسة المحتجزين قام بتهريبهم لقاء مبلغ من المال، ووصفت أوساط الفصيل ما حدث بالخيانة مع التوعد بأن الردّ آتٍ.

ومهما كانت تفاصيل عملية تحرير الرهائن الأخيرة، فإنها تُعدّ بمثابة نجاح للاختراق المخابراتي، خاصة بعد عملية اغتيال مرهج الجرماني التي توحي بدورها بوجود اختراق ساعد على تنفيذها بدقة وحرفية عاليتين، وبحيث اغتيل المستهدف بطلقة واحدة، ما يوحي بأن القاتل كان يعرف جيداً طريقه إلى المغدور وتصرف باطمئنان شديد. وإذا كان من "خيانة" في الحالتين، فسيكون من الصعب احتسابها كحالة فردية عابرة إذ تتكرر خلال أسبوع واحد، وفي عمليتين لا يمكن التغاضي عن أثرهما المعنوي فوق أثرهما المادي.

اغتيال الجرماني وتحرير الضباط والعناصر أتيا بعد ما ظهر وكأنه انتصار لحراك السويداء وفصائله المحلية قبل شهر من الآن، عندما أصرّ المتظاهرون بدعم من الفصائل على إزالة حاجز "العنقود" الذي كانت قوات الأسد قد وضعته آنذاك في المدخل الشمالي في المدينة. الاحتجاجات على الحاجز رافقها تبادل لإطلاق النار بين الفصائل المحلية وقوات الأسد، ثم تم التوصل إلى اتفاق يقضي بنقل الحاجز من مكانه، ما اعتُبر انتصاراً. بدوره أتى انتصار موقعة الحاجز، إثر أسبوع من نجاح الفصائل المحلية بتحرير المعتقلة لدى المخابرات الجوية ريتا العقباني، بعدما اختطف فصيل "لواء الجبل" وفصيل "تجمّع أحرار الجبل" خمسة عشر عنصراً من قوات الأسد كرهائن بهدف الإفراج عنها.

من بين تلك التطورات لم تحظَ التجاذبات حول موضوع حاجز "العنقود" بالانتباه الكافي، فغلبت مظاهر الاحتفال بالنصر على التمحيص في فحوى النصر المزعوم. نشير هنا تحديداً إلى البيان الذي أصدره آنذاك في مدينة السويداء، يوسف جربوع، بصفته أيضاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، إلى جانب شيخَي العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي اللذين شاركا في تشييع الجرماني بينما لم يصدر عن جربوع ما يشي بإدانة عملية الاغتيال، رغم أن بيانه المشار إليه ينتهي بالتأكيد على "تحريم التعدّي والتأكيد على أن دم السوري على السوري حرام".

لكن جوهر بيان جربوع، المؤرّخ في 24 من الشهر الفائت، هو البند الثاني الذي ينص على "الوقوف إلى جانب الجيش العربي السوري في مهماته الكبرى في الحفاظ على الوطن وسيادته". وهذا البيان يناقض على الأقل ما تراه الغالبية في السويداء لجهة رفض الخدمة في قوات الأسد على مبدأ "دم السوري على السوري حرام"، لأن تلك القوات تقتل السوريين ولا تقوم بما يُفترض أنها مهمتها "في الحفاظ على الوطن وسيادته". وكانت مقدّمة البيان قد نصّت على صدوره بعد اجتماع في دارة الشيخ جربوع، ضمّ مرجعيات دينية واجتماعية للتشاور، وهذه الإشارة أتت للتأكيد على أن موقف جربوع يحظى بتأييد اجتماعي وليس موقفاً معزولاً لشيخ يحابي السلطة. فحوى الموقف، بلا تنميق، أن الشيخ، مدعوماً بأولئك المجتمعين، يدعم قوات الأسد التي كان المتظاهرون والفصائل المحلية يطالبون بإزالة الحاجز الذي أقامته في "دوار العنقود".

لم يكن موقف جربوع المُعبَّر عنه في البيان مفاجئاً، إلا أن إعلانه على هذا النحو له دلالة كان وما زال من الخطأ التغاضي عنها. فإعلان الوقوف إلى جانب قوات الأسد، على الضد من مشاعر الغالبية في السويداء، لا يمكن صدوره من دون ترتيبات على مستوى عالٍ مع مسؤولي الأسد، وضمن سياق يخدم مخططات تُدبَّر للسويداء. إعلان النصر والاحتفاء به آنذاك كان ينطوي على تجاهل مجمل ما حدث باعتباره على الأقل نصف نصر ونصف هزيمة، فزحزحة الحاجز بضعة أمتار هي بمثابة نصف نصر، أما إصدار بيان جربوع بلا رد فعل حقيقي من الحراك يجعل صاحبه معزولاً وفاقداً مكانته "الشرعية"، فذلك بمثابة نصر لصالح الأسد لن يتأخر عن استثماره.

أخطر ما في بيان الشيخ جربوع أنه خرق ما يريد الآخرون تصويره على أنه إجماع محلي، ليجعل من الخلاف في شأن أساسي مجرد وجهة نظر، فلا تكون مخالفة الإجماع بمثابة "خيانة" كما يصفها كثر من أهل الحراك. ولئن كان الإجماع فكرة يستحيل تحقيقها فإن خرقه من قبل جربوع له ثقل اجتماعي وديني، يختلف كمّاً ونوعاً عن خرقه من قبل أشخاص ليست لهم الرمزية ذاتها. فما فعله جربوع يشجّع آخرين على موالاة الأسد بلا خوف من التبعات الاجتماعية، وبهذا المعنى يشرّع الانقسام في السويداء وهو ما سعى إليه الأسد منذ بداية الانتفاضة.

على نحو رمزي يمكننا القول أن هذا البيان، قتل مرهج الجرماني، لأن ذلك الاجتماع في دار الطائفة برئاسة الشيخ جربوع، أعطى سلطة الأسد الغطاء المحلي الذي تريده للشروع في استهداف منهجي للحراك. وبالطبع لا يجوز عزل هذا التطور عن سياق ما يمكن تسميته بعمليات جسّ نبض متوالية، العمليات التي تسارعت وتيرتها مع تعيين المحافظ الجديد، وهو صاحب خلفية مخابراتية معروفة تصرّح ولا تشي فقط بالدور الذي راح يؤديه منذ تعيينه. ومن المستغرب ألا يحظى السياق كله بما يليق به من انتباه ويقظة، وأن يطغى لدى أهل الحراك ذلك الاطمئنان إلى استتباب الأمر لهم كما كان من قبل.

ربما من المستحسن أن نضيف إلى السياق ذاته ذلك الخبر العجيب عن الصيني الذي فُقد في السويداء قبل عشرة أيام، ولاقى نشر الخبر "بعد أسبوع من اختفائه" على وسائل التواصل من السخرية ما غطّى على التوجّس المطلوب إزاء حدث قد يكون شرارة معدَّة لتفجير واسع النطاق، كأن يُستخدم "اختطافه" ذريعة لاقتحام السويداء. وحتى خبر ظهوره، كما نشرته صفحة "الراصد"، يرسم الكثير من علامات الاستفهام إذ نصّ على قيام "إحدى الجهات المتعاملة مع الأجهزة الأمنية باحتجازه ونقله إلى دمشق بعد ذلك". ما نودّ قوله أن المخاطر زادت منذ الاشتباك حول حاجز العنقود قبل شهر، يعززها أن الحراك وصل إلى أعلى سقف ممكن، وربما حانت لحظة الأسد كي ينقض عليه، ليس بالضرورة على شاكلة ما فعل في المناطق الثائرة من قبل، إذ يجوز القول أنه يتقدّم في السويداء منذ شهر بحذر أكبر مسنوداً بالبيان رقم واحد.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها