السبت 2024/08/31

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

بيان سوري وآخر يهودي وغياب فلسطيني

السبت 2024/08/31
بيان سوري وآخر يهودي وغياب فلسطيني
موقع الجريمة الإرهابية التي ارتكبها "داعشي" في سولينغن - ألمانيا (Getty)
increase حجم الخط decrease
"ليس بإسمنا".. هذا هو فحوى البيان المذيَّل باسم "ملتقى أغورا"، والذي طُرح للعموم من أجل التوقيع عليه قبل ثلاثة أيام، ونال تأييد عشرات السوريين. البيان موجَّه إلى الجمهور الألماني على خلفية قيام داعشي، سوري الجنسية، بطعن العديد من الأشخاص، ما أدّى إلى مقتل ثلاثة منهم، إذ هاجم المذكور احتفالاً في الهواء الطلق أقامه أهالي مدينة سولينغن في ذكرى تأسيس مدينتهم.

وكان سوريون كثر في ألمانيا قد أعلنوا مخاوفهم من أن يكون الجاني سورياً، فور الإعلان عن الهجوم، وقد صار هذا معتاداً في وسائل التواصل، بمعنى أن يكون الخوف من تداعيات الجريمة على السوريين هو الطاغي عليهم. وفي العديد من المرات أعلن المتخوّفون ارتياحهم عندما تبيّن أن الفاعل ليس سورياً، بما فيها عمليات إرهابية لتنظيم داعش نفسه نفّذها أعضاء غير سوريين.

يكشف رعب السوريين من أن يُحتسب عليهم إرهابي ما، عن هشاشة أوضاعهم في بلدان اللجوء، وجزء من الهشاشة متصل بصعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. أما الجزء الآخر فقد حمله اللاجئون معهم، من سوريا ومن أهوال رحلة الوصول إلى بلد اللجوء. وما له دلالة عميقة، أنهم لا يعبّرون عن مخاوف من أن يكونوا ضحايا عملية إرهابية، فعلى سبيل المثال لم يعبّر سوريو ألمانيا أو سوريو فرنسا، عن مخاوف من أعمال إرهابية أثناء بطولة أوروبا لكرة القدم أو الأولمبياد، مع أن المخاوف كانت منتشرة في البلدين.

يُحسب للبيان الذي وقّعه عشرات السوريين، إدانةً لجريمة سولينغن، أنه يشير إلى كون اللاجئين السوريين يتشاركون خطر الإرهاب مع البلد المضيف. لا بأس إن كان التعبير عن الامتنان لألمانيا قد زاد عن الحد، وكذلك امتداح "الطريقة الرائعة التي تعيش بها هذه البلاد منذ خلاصها من النازية والحرب". لكن ما يلفت الانتباه أن البيان لم يذهب بوضوح إلى المطالبة بألا يؤخذ السوريون بجريرة عمل إرهابي ارتكبه واحد منهم. وإلحاح المطالبة هنا، آتٍ من قوانين وتعليمات جديدة خاصة باللاجئين في سبيلها إلى الإقرار، أو تتوعّد بإقرارها أحزابُ اليمين المتطرف في حال وصولها إلى السلطة، وهي القوانين التي من المؤكد أنها لا تتوافق مع المُثُل التي يرى واضعو البيان ألمانيا رائدةً فيها.

بخلاف البيان السوري، كان فنانون وكتّاب وأكاديميون يهود مقيمون في ألمانيا، قد وقعوا بياناً احتجاجياً ضد قانون يزمع البوندستاغ إقراره تحت عنوان: "لن يتكرر إطلاقاً: حماية الحياة اليهودية في ألمانيا والحفاظ عليها وتعزيزها". يحتج الموقّعون على أن القانون يربط ضمناً اليهودَ بتصرفات الحكومة الإسرائيلية، وسيُسكت حتى الأصوات اليهودية المعارضة لسياسة إسرائيل، فضلاً عن أن القانون، ودائماً وفق المحتجين عليه، "خطير، وسيخنق حرية التعبير، ويعزل ألمانيا عن بقية العالم الديموقراطي، ويزيد من تعريض الأقليات العرقية والدينية للخطر، خصوصاً جيراننا العرب والمسلمون، الذين استُهدفوا بالفعل بعنف الشرطة الوحشي".

إن مقارنة سريعة بين البيانين تكشف خوف اللاجئ في بيان المثقفين السوري، وثبات وقوة الفاعل السياسي في بيان المثقفين اليهود. وهذا بلا شك عامل له أسبابه الموضوعية، بحيث لا يُجلد به أصحاب البيان الأول وهم يُظهرون إعجابهم غير المشروط بالنموذج الألماني، النموذج ذاته الذي يدافع عنه أصحاب البيان الثاني بشجاعة ووضوح ضد مشاريع قوانين منافية لأفضل ما فيه.

لكن، رغم كل الأعذار، تبقى الخشية مبرَّرة من أن يؤدي تغلّب الخوف إلى التبخيس من قيمة البيان السوري "ومن قيمة أي بيان مماثل لاحقاً". فإبداء العرفان إزاء البلد المضيف، وامتداحه غير المشروط، غريبان عن الثقافة السياسية للبلد. مثلاً ورد في ختام البيان: "إن الموقف الأسلم ضد هذه الأفعال هو التأكيد على قيم التعايش بين المسيحيين واليهود والمسلمين وغير الدينيين، لأن ما يجمع الناس معاً أكثر بكثير مما يفرّقهم، والقيم الأساسية هي قيم كونية شاملة. ولطالما كانت ألمانيا رائدة في ذلك كله". وقد يكون مبكراً هنا التذكير بأن الانتماء إلى المفاهيم الأساسية بات، منذ عصر الحداثة، يتضمن أن يكون المرء نقدياً، إزاء موقعه وإزاء الغرب أيضاً.

ومن الملاحظ، بل المستغرب بشدة، أن البيان يتجاهل ما أتى به إعلان تنظيم داعش عندما تبنى هجوم سولينغن، لجهة اعتبار العمل الإرهابي "انتقاماً للمسلمين في فلسطين وأماكن أخرى". ومن المفهوم لنا أن واضعي البيان لا يريدون الخوض في الشق الفلسطيني من الموضوع، لا سلباً ولا إيجاباً. لكن تخوّفهم ينتقص من البيان، إذ لا يشير إلى جانب أساسي من الحدث نفسه. فليس تفصيلاً لا قيمة له أن يصوَّر الهجوم "انتقاماً للمسلمين في فلسطين"، بل لعل هذا الهدف يقلل من شأن الجنسية السورية للإرهابي، إذ يصرف الأضواء في اتجاه ربطه بالحرب الحالية على غزة. التخوّف من أية "زلة" سياسية، لا سيما مع التشدد الألماني إزاء كل ما يمت بصِلة لإسرائيل، كان يمكن على الأقل تحاشيه بكلام سياسي عمومي من قبيل رفض الإرهاب كوسيلة انتقام أو تحقيق مآرب سياسية.

لم يكن متوقعاً، تحت السقف السياسي المنخفض جداً للبيان السوري، أن يُشار إلى الاستثمار الداعشي في القضية الفلسطينية. كان مأمولاً أن تبادر جهات فلسطينية، أو أن يبادر سريعاً أفراد مستقلون، إلى إصدار بيان يرفض هذا الاستثمار، ويرفض أدنى خلط بين الإرهاب ومقاومة فلسطينية مشروعة ذات ضوابط تحددها المواثيق الدولية.

قولُ "ليس بإسمنا" مطلوب بقوة من الفلسطينيين، وكان يمكن لاعتداء الداعشي في مدينة سولينغن الألمانية، أن يكون مدخلاً قوياً لمثل هذا التحرك. الأمر لا يتعلق فقط بردّ الإساءة التي يعتدي بها داعش على مجمل النضالات الفلسطينية، ولا بتجميل صورة الفلسطينيين في العالم. إنه يتعلق أولاً بموقف مبدئي حقيقي من الإرهاب، والحضور الفلسطيني المتجذّر في الغرب "أكثر بكثير من نظيره السوري"، وكفيلٌ بمنح هذا الموقف وزناً سياسياً ليس في متناول السوريين حالياً.

بالطبع هذا ليس مطلوباً من الضحايا الواقعين الآن تحت حرب الإبادة الإسرائيلية، وإنما هو مطلوب لأجلهم. وإذ تقترب الحرب من إتمام سنتها الأولى، فإن طيف المستثمرين في الشأن الفلسطيني صار أكثر انكشافاً من أي وقت مضى، وهذا عامل آخر لتحفيز الفلسطينيين "خارج غزة" على مخاطبة جميع المستثمرين، وداعش لا يُعدّ بين أعلاهم شأناً وتأثيراً، بالقول: "ليس بإسمنا".


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها