في حَواليْ عَقْدٍ ونِصْفِ عَقْدٍ، تَغَيّرَ كَثيراً شُعورُنا حيالَ شَبَكاتِ التَواصُلِ ونَحْنُ نَتَصَفّحُ ما يُعْرَضُ عَلَيْنا فيها أو نُدْلي بِدَلْوِنا في مَجاهِلِها على نَحْوٍ أو آخَر… يَتَعَذَّرُ - على ما يَبْدو لي - حَصْرُ وُجوهِ هَذا التَغييرِ وأسْبابِه. والأَرْجَحُ أَنّها تَخْتَلِفُ كثيراً أو قَليلاً باخْتِلافِ المَواقِعِ والأَشْخاصِ وباخْتِلافِ التَجارِب. مَعَ ذَلِكَ أَحْسَبُنا لا نَعْدو الصَوابَ إذا قُلْنا إنّ الوجْهةَ السَلْبِيّةَ هِيَ الغالبةُ على هَذا التَغْيير.
فَفي مُنْطَلَقِ الانْخِراطِ في هذِهِ التَجْربةِ، كانَ الاسْتِبْشارُ بالفَضاءِ الحُرِّ، المَعْروضِ عَلى كُلِّ مُشارِكٍ، هُو الغالِب. بَدا مُتاحاً لِكُلٍّ مِنّا أنْ يُنْشىءَ لِنْفْسِه نَوْعاً مِن الصَحيفةِ الشَخْصِيّةِ فَيُوَدِّعَ أَنْواعاً مُخْتَلِفةً مِن القُيودِ عَلى النَشْرِ تَفْرِضُها عَلَيْهِ الصحافةُ التَقْليدِيّةُ المُسْتَأْثِرَةُ إلى حِينِهِ بالفَضاءِ وبالسوق. بَلْ إنَّ كلَّ مُرْتادٍ لواحدةٍ أو لِأَكْثَرَ مِنْ واحِدةٍ مِنْ هَذِهِ الشَبَكاتِ بَدا قادِراً عَلى نَوْعٍ مِن التَنَزُّهِ الحُرِّ بَيْنَ وسائطِ التَعْبيرِ المَعْروفةِ والأَنْواعِ المُخْتَلِفةِ التي يَسَعُ كُلّاً مِن الوَسائطِ أنْ يَسْتَقْبِلَهُ. فَيَسَعُهُ، مِنْ مَنْشورةٍ إلى أُخْرى، أنْ يَكونَ مَرّةً كاتِباً ومَرّةً مُصَوِّراً ومَرّةً عازِفاً، إلخ، ويَسَعُ الوَسيطَ المَوْضوعَ بِتَصَرُّفِهِ أن يَكونَ مَرّةً جَريدةً ومَرّةً إذاعةً ومَرّةً مَحَطّةَ تَلْفَزةٍ، إلخ. وهو، إذا اخْتارَ أنْ يَكونَ كاتِباً - مَثَلاً - أَمْكَنَهُ أنْ يَكونَ ناثِراً تارَةً وشاعِراً طَوْراً، إلخ، وإذا شاءَ أنْ يَصْرِفَ جُهودَهُ لِخِدْمةِ دَعْوةٍ يَتَبَنّاها - مَثَلاً أَيْضاً - لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ حَقَّهُ في دَعْوَتِهِ أو أنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ أُسْلوباً في مُزاوَلَتِها، إلخ.
فَإذا كانت هَذِهِ هي الحالَ التي تَبَيَّنّاها للمُنْشئِ، في أوائلِ العَهْدِ بشَبَكاتِ التَواصُلِ، فَإنَّ ما تَوَسَّمْناهُ في الجِهةِ المُقابِلةِ، أيْ في جِهةِ المُتَصَفِّحِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَكونَ أَقَلَّ تَفَلُّتاً مِن قُيودِ الأَنْواعِ أَوْ مِن القُيودِ عَلى التَوَجُّهاتِ، إلخ. وإذا ظَهَرَ لَنا مِنْ داعٍ إلى التَوَجُّسِ، في تِلْكَ المَرْحَلةِ الأُولى، فإنّما وَجَدْناهُ (قَبْلَ أنْ يَطْغى ذِكْرُ الخَوارِزْمِيّاتِ) في الفَوْضى العارِمةِ التي لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أنْ يُسْفِرَ عَنْها طَوَفانُ المَوادِّ المُتَدَفِّقةِ تَحْتَ بَصَرِ مُتَصَفِّحٍ لا يَقْوى على الإحاطةِ بِهَذا الذي يُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلِّهِ، وهو قَدْ لا يَرى في جُلِّهِ سِوى أسْبابٍ لِلتَشْتيتِ ومَصادِرَ لِلإزْعاج…
تِلْكَ كانَت أَعَمَّ التَباشيرِ لِحالِ الأَفْرادِ المُفْتَرَضةُ، مُنْشِئينَ ومُتَصَفِّحينَ، مُنْتِجينَ ومُسْتَهْلِكينَ، عَلى ما بَدَتْ لِلمُلاحِظِ، في آوِنةِ الاسْتِطْلاعِ والتَعَرُّفِ تِلْكَ مِنْ عُمْرِ الشَبَكات. وكانت الحُرِّيّةُ عُنْوانَها الجامِعَ: الحُرِّيّةُ أي التَحَرُّرُ مِنْ أَسْرِ الوَسائطِ القائمةِ ومُحْتَكِريها ومِنْ أَيِّ حِصارٍ مَضْروبٍ حَوْلَ الأَنْواعِ ومِنْ كُلِّ قَيْدٍ أو شَرْطٍ يُمْلى على الرَأْيِ والتَوَجُّهِ أو عَلى الذَوْقِ، إلخ. لا حاجةَ إلى القَوْلِ، مِنْ بَعْدُ، أنَّ ما لاحَ آنَذاكَ كانَ ثَوْرةً مُسْتَتَمّةَ السِماتِ، شاسِعةَ الأَبْعاد…
في ما يتعدّى نَظَرَ الأفرادِ، أيْ في نَظَرِ الجَماعاتِ، بِما هِيَ مُنْشِئةٌ، والرَأْيِ العامِّ (أو الآراءِ الجَماعِيّةِ بالأَحْرى) في الجِهَةِ المُتَصَفِّحةِ، بَدَت الثَوْرةُ واسِعةَ النِطاقِ، مُتَعَدِّدةَ الوُجوهِ، أَيْضاً. مِنْ ذاكَ أنَّ الوَسائطَ الجديدةَ راحت تَعْرِضُ فُرَصاً لـ"ارْتِجالِ" جَماعاتٍ ولِإحْياءِ أُخْرى كان يُظَنُّ أَنّها ذاويةٌ، وهَذا بِلا حَدٍّ لأَنْواعِ الجَماعات المُحْتَمَلة. بَدا كافِياً إنْشاءُ صَفْحةٍ تَفْتَرِضُ - على اخْتِلافِ المَواطِنِ - وُجوداً أو اسْتِمْراراً لِجَماعةٍ بَلَدِيّةٍ أو نَسَبِيّةٍ، سِياسِيّةٍ أو ذَوْقِيّةٍ، إلخ، حَتّى تُقْبَلَ الفَرْضِيّةُ مَبْدَئيّاً. وهَذا عَلى أن يَكونَ صُمودُ الصَفْحةِ وازدِهارُها بِمَثابةِ امْتِحانٍ لِنَصيبِ الفَرْضِيّةِ مِن الحَقيقة. عَلَيْهِ أَتاحَت "لامَكانِيّةُ" الشَبَكةِ (أيْ تَعَوْلُمُها التِلْقائيِّ) لِجَماعاتٍ مِنْ قَبيلِ القَبائلِ – مَثَلاً – أن تَنْتَعِشَ وتَسْتَعيدَ قَليلاً أو كَثيراً مِن التَماسُكِ والحُضورِ، بَعْدَ أنْ كانت الهِجْراتُ والمُدُنُ قَد بَدَّدَتْها أو شَكَتْ عَلى تَبْديدِها شَذَرَ مَذَر… ذاكَ هُوَ حالُ الجَماعاتِ البَلَدِيّةِ أَيْضاً، إلخ.
في جِهةِ الرَأْيِ العامِّ (أيْ في الجِهةِ المُتَصَفِّحةِ) أَذِنَتْ شَبَكاتُ التَواصُلِ بِتَنْويعِ المَعْروضِ بِلا حَدٍّ ولا ضابِطٍ تَقْريباً، وأَذِنَتْ (في مَجالِ السِياسةِ والحَرْبِ، مَثَلاً) بِوَضْعِ الوَقائعِ، فَوْرَ وُقوعِها، تَحْتَ أَبْصارِ الرَأْيِ العامِّ، في أَطْرافِ الأَرْضِ: وهوَ ما كانت التَلْفَزةُ الفَضائيّةُ قدْ بَدَأَت تُتيحُهُ أيضاً ولَكِنَّ شَبَكاتِ التَواصُلِ أَذِنَت لِكُلِّ شاهِدٍ أو مَعْنِيٍّ أنْ يَشْتَرِكَ فيه. فأَسْفَرَ هَذا التَوَسُّعُ في الجِهةِ المُنْشئةِ حُضوراً، في الجِهةِ المُتَصَفِّحةِ، لِتَفاصيلَ وهُمومٍ وآراءٍ، إلخ، لَمْ يَكُنْ لَها مِنْ وُصولٍ إلى المُعايناتِ المُتَلْفَزة. في السِياسةِ والحَرْبِ أيضاً، أَصْبَحَت الوَقائعُ والفَظائعُ مَعْروضةً على العُمومِ على مَدارِ الساعةِ فتَقَلَّصَت، شَيْئاً ما، فُرَصُ النَجاةِ بالفِعْلةِ بإنْكارِها أو بالتَلاعُبِ بِدَلالَتِها والزَوَغانِ مِن المَسْؤولِيّةِ عَنْها. إلخ، إلخ.
اليَوْمَ ما يَزالُ عَلَيْنا الإقْرارُ للشَبَكاتِ بِهذهِ المَزايا كُلِّها أو جُلّها: بِما يَقَعُ مِنْها تَحْتَ عُنْوانِ الحُرِّيّةِ والتَحَرُّرِ وما يَقَعُ تَحْتَ عُنْوانِ المَعْرِفةِ وتَعْظيمِ القُدْرةِ على وَضْعِ كلِّ أَمْرٍ في نِصابِهِ وتَقْويمِ الحُكْمِ في الماجَرَياتِ ودَلالاتِها. لَيْسَ حُصولُ المَزايا المُشارِ إلَيْها مَوْضوعَ الجَدَلِ إذَنْ أو سَبَبَ جُنوحِنا إلى السَلْبِيّةِ في تَقْويمِنا لِما انْتَهَت إلَيْهِ الشَبَكاتُ أَدْواراً ومَضامين. وإنّما مَبْعَثُ هذا الجُنوحِ أنَّ الشَبَكاتِ نَفْسَها فَتَحَت الأَبْوابَ واسِعةً لِمُواجَهةِ كُلٍّ مِنْ مُنْجَزاتِها بِضِدِّها في نَوْعٍ مِن الهُجومِ العامِّ المُضادِّ راحت تَشَنُّهُ سائرُ الجِهاتِ والقُوى المُتَأَذِّيةِ مِن الحُرِّيّةِ أو مِن المَعْرفة.
هَكذا بَدَت الأَبْوابُ مَفْتوحةً على مَصاريعِها للتَفاهةِ وفَسادِ الأَذْواقِ كافّةً وللتَضْليلِ ونَشْرِ التُرَّهاتِ على أَنْواعِها. وبَدا الرَأْيُ المُتَحَرِّرُ، الخارِجُ عن السِكَكِ المَفْروضةِ يُواجِهُ الإرْهابَ المَعْنَوِيَّ بالتَسْفيهِ الاعْتِباطِيِّ وبِتَحْقيرِهِ أو تَحْقيرِ صاحِبِهِ أو يَسْتَثيرُ العُنْفَ المادِّيَّ في قَوالِبِ التَخْويفِ أو التَهْديدِ الذي لا يُسْتَبْعَدُ دائماً أن يَكونَ لَهُ ما بَعْدَه. وباتَ مُحْتَمَلاً أن يُواجِهَ الفَرْدُ المَعْزولُ، المُعْتَدُّ، بِلا زِيادةٍ، باسْتِقْلالِهِ بِرَأْيِهِ، كَتائبَ مُسْتَنْفَرةً، مُتَفَرِّغةً للضَبْطِ والرَبْطِ، على الشَبَكاتِ، وللرَدْعِ والإرْهابِ بِحَلالِ الأَساليبِ وحَرامِها، وللارْتِدادِ، ما أَمْكَنَ، بِفَضاءٍ وُلِدَ واعِداً بِتَعَدُّدٍ وتَنَوُّعٍ لا حُدودَ لَهُما إلى السَوِيَّةِ المَعْهودةِ لإِعْلامِ الرَأْيِ الواحِدِ وفِكْرِ الدَولةِ (أو ما دونَها) وإنْشاءِ الأَجْهِزةِ السُلْطانِيّةِ أو المُتَسَلْطِنةِ وإمْلائها.
هذا وَلَم يَكُن عَجَباً أن يَبْسُطَ السُلْطانُ يَدَهُ إلى الشَبَكاتِ بالقَمْعِ المُباشِرِ مُسْعِفاً جُنْدَهُ حَيْثُ لا يَنْفَعُ تَهْويلُهُم. هَكَذا نَشَأَت دوائرُ وأَجْهِزةٌ للدُوَلِ مُتَخَصِّصةٌ في رَدْعِ المُعارِضينَ في الشَبَكات ومُعاقَبَتِهِم إنْ لَمْ يَرْتَدِعوا. وبَلَغَت العُقوباتُ، في دُوَلٍ بِأَعْيانِها، سَوِيّةً مِن الشِدّةِ لا تَنْفَكُّ تُباغِتُ أَشَدَّ المُراقِبينَ تَشاؤماً بالحُكْمِ والحُكّامِ في تِلْكَ الدُوَل. هذا حَيْثُ لا يُحالُ أَصْلاً بَيْنَ الشَبَكاتِ والراغبينَ في الانْتِفاعِ بِها مَراكِبَ للتَعْبيرِ على اخْتِلافِ أَنْواعِه…
في ما دونَ الضَلالِ والتَضْليلِ والسَفاهةِ والتَفاهةِ والإرْهابِ والقَمْعِ، وَجَدت الجَريمةُ "العاديّةُ" مَراتِعَ لَها وسُبُلاً إلى التَفَشّي في شَبَكاتِ التَواصُل. فَضُمَّت حَيِّزاتٌ مِن هذِهِ الأَخيرةِ إلى ما باتَ يُدْعى "الشَبَكةَ المُظْلِمةَ"، وسَهَّلَت هذهِ الحَيِّزاتُ اتِّخاذَ أَقْبَحِ الجَرائمِ وأَحَطِّ العِصاباتِ أَبْعاداً أُمَمِيّةً إذ أَفادَتْ (هِيَ أَيْضاً) مِن اجْتِياحِ الشَبَكاتِ حُدودَ الدُوَلِ والمُجْتَمَعات. إلخ، إلخ.
اسْتَكْثَرْنا -عَلى ما هُوَ ظاهِرٌ- مِن "إلخ" وَمِنْ "مَثَلاً".. أَمْلى هذا الاسْتِكْثارَ أَنَّ المَوْضوعَ، وهوَ مُشْتَمِلٌ عَلى الكَوْكَبِ بِأَسْرِهِ، لا يُحاطُ بِهِ، ناهيكَ بِأَنْ يُسْتَنْفَدَ الكَلامُ فيه. تَبْقى خُلاصةُ القَوْلِ أنّ ما بدأ أَوّلَ وَهْلةٍ أَنَّهُ فَيَضانُ مَعارِفَ وحُرِّيّاتٍ ومُتَعٍ ذَوْقِيّةٍ لَمْ يَلْبَثْ أنْ تَكَشَّفَ عن ميزانِ قُوىً في إحْدى كَفَّتَيهِ الحُرِّيّاتُ والمَعارِفُ والمُتَعُ المُشارُ إلَيْها وفي الأُخْرى الجَهْلُ والسَفاهةُ والقَمْعُ والجَريمةُ. غَدا الكُلَّ مُعَرَّضاً، مَبْدَئيّاً، لِهَذا كُلِهِ، بِماهُوَ مُتَصَفِّحٌ، ومُغْرىً بالضُلوعِ في خَيْرِهِ وشَرِّهِ أيْضاً، بِما هُو مُنْشئ. أَيْ أنّ ما بَدا ارْتِقاءً مُنْتَظَراً بالعالَمِ أَسْفَرَعَنْ نَشْرٍ ومُضاعَفةٍ ذَريعَيْنِ لعُجَرِ العالَمِ الماثِلِ وبُجَرِه. فَتَقابَلَ السُمُوُّ المَبْذولُ لِلْبَشَرِ والامْتِثالُ الذَليلُ لِشَرِّ أَحْوالِهِمْ وأَقْبَحِ نَوازِعِهِم. والراجِحُ أنَّ هَذا التَقابُلَ ما كانَ لِيَفوتَ فِطْنةَ المُراقِبِ الحَصيفِ مِنْ وَقْتِ أن اتَّضَحَت مَعالِمُ الظاهرةِ وآفاقُ نُمُوِّها. ولَكِنّهُ فاتَ –وَلا رَيْبَ– شُعورَ المُقْبِلينَ عَلى اسْتِكْشافِها والإفادةِ مِنْها، المُسْتَبْشِرينَ بِحُمولَتِها المُفْتَرَضةِ، في أوائلِ العَهْدِ بِها. وَها هُم اليَوْمَ في أَوانِ الإفاقةِ الصَعْبةِ مِن السَكْرة.
بَلْتيمور، ٢-٣ حزيران ٢٠٢٤
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها