الثلاثاء 2024/06/04

آخر تحديث: 07:10 (بيروت)

أخيراً..شراء مناطق آمنة من الأسد!

الثلاثاء 2024/06/04
أخيراً..شراء مناطق آمنة من الأسد!
increase حجم الخط decrease

نعم، هذه آخر بدعة مطروحة للتداول في موضوع إعادة اللاجئين السوريين، كي يصبحوا لاجئين في بلدهم. المكان المقترح هو ريف حمص، وعلى الأرجح ريف حمص الشرقي وهو جزء من البادية السورية المقفرة. صاحب الاقتراح حسبما شاع أخيراً هو الجنرال جاني كارفيللي، رئيس المخابرات الإيطالية الذي لم تنكر بلاده خبر زيارته السرية إلى دمشق قبل أسبوع. في التفاصيل أن كارفيللي التقى ببشار الأسد وبمدير المخابرات حسام لوقا، والأخير حلّ مكان علي مملوك الذي سبق أن تسربت أخبار زيارة سرية له إلى إيطاليا عندما كان على رأس عمله.

ذهاب رئيس المخابرات الإيطالية إلى دمشق هو تتويج لحراك في موضوع اللاجئين بدأته قبل أسابيع ثماني دول أوروبية، منها قبرص واليونان والدنمارك والتشيك والنمسا، غايته أولاً منع تدفق المزيد من اللاجئين، خاصة من لبنان إذا أمكن أعادة قسم كبير منهم إلى سوريا. في مرحلة متقدّمة من التنفيذ تراهن هذه الدول على إقناع الدول الأوروبية الأخرى ورئاسة الاتحاد الأوروبي بأن سوريا صارت آمنة، ولو بجزء منها، ما يسمح لبلدان الاتحاد بالتعاطي مع اللاجئين على أراضيها بموجب ذلك، وهناك حكومات متلهّفة لاتخاذ تدابير قاسية ضد اللاجئين ولا يلجمها سوى امتثالها لقوانين الاتحاد الأوروبي.

كان مؤتمر بروكسل الذي نظّمه الاتحاد الأوروبي قبل نحو عشرة أيام مناسبة ليؤكد الاتحاد على أن سوريا غير آمنة، على النحو الذي تسعى إلى إقراره دول من خارج أوروبا أيضاً مثل لبنان. وشدد جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد مع بدء المؤتمر على أن التزام أوروبا لا يمكن أن ينتهي بالتعهدات المالية وحدها، وعلى "أنه لا بد من إعادة مضاعفة الجهود لإيجاد حل سياسي للصراع، حل يدعم تطلعات الشعب السوري لمستقبل سلمي وديمقراطي". أي أن تفسير زيارة المسؤول الإيطالي دمشق، إثر مؤتمر بروكسل مباشرة، يحتمل محاولة الالتفاف على الموقف الأوروبي التقليدي، من دون استبعاد نهائي لرضا أوروبي مفاده أن يجرّب البعض فتح مسار مغاير مع الأسد.

المشروع المطروح هو إغراء الأسد ليقبل بفكرة المنطقة الآمنة، أي شراء تلك المنطقة منه بحيث يتعهد بعدم ملاحقة السوريين الذين سيوضعون في تلك المحمية. وخطورة هذه الفكرة تأتي أولاً من مخالفتها الصريحة للقوانين الدولية الخاصة باللاجئين، والتي بموجبها إما أن يكون بلد اللاجئ غير آمن ما يمنحه حق اللجوء، أو أن يكون آمناً ما يمنح البلد المضيف حقّ سحب الحماية. في الحالتين، لا يوجد بلد في منزلة بين الاثنتين بحيث يكون آمناً وغير آمن للشخص ذاته، فهو هنا في الحد الأدنى محروم من حقه في التنقل ضمن بلده لأن المنطقة الآمنة ترسم له حدوداً يفقد الأمان المزعوم متى تخطّاها.

إذا تجاوزنا فرضية إمساك الأسد بالمنطقة الآمنة كورقة ابتزاز إضافية، من حيث التهديد باجتياحها أو عدم السماح بإدخال لوازم العيش الضرورية إليها، فإنها في أحسن الأحوال لن تكون مخيماً جديداً للاجئين على نحو ما هو موجود في مخيمات للنازحين في سوريا أو اللاجئين في دول الجوار. نظرياً على الأقل، ورغم المضايقات والانتهاكات هنا وهناك، لا يخضع هؤلاء الملايين لما يشبه معسكر الاعتقال الذي ستكون عليه المنطقة الآمنة، لأنها ستكون شبيهة بما آل إليه حال بعض المخيمات في لبنان بعد سعار العنصرية الأخير ضد اللاجئين.

سبق أن طُرح في العلن، على لسان مسؤولين في لبنان وقبرص وسواهما، ما يُشاع أن رئيس المخابرات الإيطالية تولى بحثه مع الأسد، ومن دون أن يثير الطرح أكثر من علامات استفهام حول التزام الأسد بعدم التعرض للعائدين. لم تُناقش فرضية المنطقة الآمنة بما يليق بها كفكرة يُفترض أصلاً أنها تنتمي إلى الفانتازيا السوداء لا إلى الواقع، لأن البشر المتضررين منها سيُعاملون كأنهم مخلوقات غير بشرية في محمية طبيعية، لا يمتلكون فيها حقوقاً طبيعية في الحركة والعمل والتعليم... إلخ. الأدهى من ذلك أن هذا يؤسس لسابقة خطيرة لن يتأخر في التقاطها طغاة سيتعاملون على أنهم يملكون أرض البلاد من دون أهلها، وأنهم يستطيعون تالياً ابتزاز العالم بتهجير السكان ثم إعادة تأجير هذه الأرض لأهلها بوصفهم لاجئين!

ما يُفترض أنه يزيد ذلك كله غرابةً أن الأسد الذي يُفاوَض في العديد من الملفات هو في أضعف حالاته منذ انطلاق الثورة ضده، فالأزمة المعيشية الخانقة جعلت السواد الأعظم من مواليه السابقين يتوسّلون أي تغيير يضمن تحسناً في ظروفهم. وصار معلوماً وثابتاً أن الأسد لم يتخذ أية خطوة "إيجابية" يلاقي بها ما هو منتظر منه لقاء تطبيع العرب معه، وحتى مقابل الإشارات الآتية من إدارة بايدن، وآخرها أقوال المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن يوم الخميس إذ أشارت إلى استعداد بلادها لرفع العقوبات عنه حالَ إحراز تقدّم في العملية السياسية، العملية المتوقفة أصلاً لعرقلته استئناف مفاوضات اللجنة الدستورية المتوقفة منذ أمد بعيد، على علاّتها وعدم جديتها.

إلا أن الاستغراب يزول عندما نتذكر محطات سابقة مماثلة، وأنه كلما وصل الأسد إلى مرحلة مؤثّرة من الضعف أتته النجدة، سواء من حلفاء له تصرفوا بلا أدنى ممانعة من واشنطن، أو من أصدقاء للأخيرة تدخلوا برضا ضمني منها. هذا النهج صار واضحاً منذ عهد أوباما، وفي تبريره قيل الكثير عن رثاثة أحوال المعارضة التي لا تشجّع على إزاحة الأسد، وقيل مثله عن أن البديل لا بد أن يكون إسلامياً. وبصرف النظر عمّا في تلك الأقوال من صحة ومن تشويه لمطالب السوريين الأصلية في الحرية، يبقى الأسد هو المتسبب بما ينبغي أن يجعله عدواً للغرب، من أجل الغرب لا من أجل السوريين وتضامناً معهم، فهو متسبب بأكبر مشكلة لاجئين في حوض المتوسط، وهو متهم من قبل هيئات رسمية غربية بأكبر نشاط في تصنيع المخدرات وتهريبها، بما في ذلك إلى إيطاليا التي هي بمثابة سوق تقليدي قديم لمافيا المخدرات السورية قبل احتكارها لصالح القصر.

أن تُجترح أخيراً وضعية شاذة غير مسبوقة من أجل الأسد، هي فكرة المناطق الآمنة المعزولة ضمن الأراضي الخاضعة له بدل الذهاب إلى أصل المشكلة، فهذا كله لا يمكن أن يكون كرمى لعيونه بوصفه ابناً مدللاً. وحتى ما هو شائع بين قسم من السوريين لجهة كونه الابن المدلل لإسرائيل لا يفسّر ما سبق، بل كان من الأسهل على الغرب مفاوضة تل أبيب للضغط عليه. بعيداً عن نظريات المؤامرة، ربما يكون التفسير موجوداً ضمن قسمة نفوذ أوسع لا يُراد خلخلتها، فضلاً عن أنها غير مستقرة بما يكفي ليتفق أطرافها على حل أكثر واقعية واستدامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها