عن معركة شرق الفرات الكبرى

تأمل إيران في أن تُمكِّنها هذه السيطرة على الصعيد الميداني، من توسيع الممر البري الى المتوسط، والذي يشهد اختناقاً شديداً في منطقة دير الزور. لكن، على الصعيد الاستراتيجي، وهو الأهم، ستكون هذه المعركة منازلة كبرى مع الولايات المتحدة وعرضاً قوياً للعضلات يتيح لإيران أن تتباهى بقوتها على صعيد الشرق الأوسط والعالم بعد أن تهزم القوة العظمى جهاراً نهاراً.

لكن ما ذكَرتُه، وتحقق جزء كبير منه، لم يكن رجماً في الغيب. التصريحات والتحركات كانت أوضح من عين الشمس. حتى أن السكان المحليين في بعض القرى والبلدات، لاحظوا الاستعدادات الإيرانية فغادروها، وصرح وزير خارجية نظام الأسد من طهران قائلاً: إن لم تنسحب القوات الأميركية من شرق الفرات طوعاً فإنها ستنسحب بالحرب. وقال حسن نصر الله في خطاب الأسبوع الماضي أن معركة شرق الفرات هي "المعركة الحقيقية التي ستغير كل المعادلات"، وأن "قسد" لا تشكل عقبة أمام استعادة تلك المنطقة، لكن "إذا أراد الأميركيون أن يقاتلوا بأنفسهم.. أهلاً وسهلاً".

أما على الصعيد الشعبوي، فقد تم إحياء وترويج مفهوم معركة قرقيسيا، وشاع الحديث عنها في أوساط المليشيات والجمهور الموالي لإيران في العراق ولبنان وسوريا. وقرقيسيا هي مدينة البصيرة الواقعة شرق الفرات، وتقع اليوم تحت سيطرة التحالف الدولي وقوات سوريا الديموقراطية. وتقول المرويات الشيعية إن معركة كبرى تسبق خروج السفياني، ستنشب فيها، ويقتل فيها الكثير من الترك والروم..

لقد تطور الحدث في شرق الفرات بطريقة مدروسة ومسيطر عليها بدقة، وقد تحدثتُ بالتفصيل عن السياق وتسلسل مجرياته في مقال سابق. وفي لحظة تحرير هذا المقال، مساء السبت 2 أيلول، وصلت العمليات العسكرية في ريف دير الزور الشرقي، إلى تخوم قاعدتي العمر وكونيكو الأميركيتين، فيما تتجه قوات كبيرة من المليشيات الإيرانية إلى مدينة البصيرة "قرقيسيا" لاحتلالها.

ما زال أبناء العشائر العربية ينكرون وجود قوات إيرانية وأخرى تابعة للنظام، بين صفوفهم، للحفاظ على روايتهم القائلة بأنه ما يحدث هو انتفاضة العرب على الهيمنة والإجحاف الذي يمارسه أكراد قوات سوريا الديمقراطية بحقهم.

بدورهم، الأكراد أنكروا، لعدة أيام، أن ما يحدث خلفه أصابع إيرانية وذلك لسببين، الأول هو وجود تيار إيراني قوي للغاية داخل "قسد" يمنع أي نقد موجه لإيران، وربما كانت لديه صفقة معها في هذا الاطار، والسبب الثاني يعود الى اختراق إيراني لاستخبارات "قسد" وقيادتها الكردية، بمعنى أن لها عملاء يساعدونها في إتمام المهمة وإبعاد الشبهات عنها، ويٌحتمل أن عمليات القتل التي اتُهمت فيها "قسد" لمدنيين من أبناء القبائل ومنهم أطفال، قد ارتكبها هؤلاء كجزء من الخطة الإيرانية لتثوير العشائر العربية.

ويبقى السؤال المحوري حتى الآن هو: ماذا عن التحالف الدولي؟ الحقيقة أن التحالف، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أحجم عن التدخل في هذا الأمر منذ البداية، خصوصاً مع رفض قيادة "قسد" الإقرار بدور إيراني، وطلبها العون من التحالف ضد العشائر بوصفها خلايا لداعش. وكان موقف الأميركيين واضحاً بأن الأمر لا يتعلق بداعش، بل بإيران، كما رفض التحالف التدخل الى جانب القبائل العربية، نظراً لشراكته وتحالفه المعلن مع "قسد".

ومجدداً يطرح السؤال نفسه: ماذا سيفعل التحالف عندما تحاصره المليشيات الإيرانية؟ والاجابة المنطقية، كما يبدو، هي أنه سيسلم قواعده إلى "قسد" وينسحب نحو الشمال، وبذلك يفتح الباب على مصراعيه لنصر إيراني كبير ستمتد مفاعيله زمناً طويلاً وإلى مناطق عديدة في الشرق الأوسط.

لقد نُكبت منطقة دير الزور، قبل عقد من الزمان، عندما توافدت اليها سراً وتحت غطاء نصرة المسلمين، مجموعات كبيرة من التنظيمات الجهادية المتشددة، وقالوا حينها انهم جاءوا لنصرة السكان فقط في وجه الكفرة، وما إن حصلوا على التمكين حتى استلوا سكاكينهم وأعملوها في رقاب أولئك المسلمين. واليوم، تدخل المليشيات الإيرانية إليها بذريعة نصرة العرب والعروبة ضد الأكراد، وإن تمكّنت فالأرجح أن تنقلب الوجوه ويستدير حدّ السكين.