تساهم عوامل متباينة ومعقدة في تكوين المشهد العام في غزة، ولا يمكن فصل العسكري عن السياسي والإعلامي والإنساني، ولا حتى إغفال الرأي العام العالمي عند التفكير في ما يحدث، وما يمكن أن يحدث. في هذا المقال، محاولة للبحث في الاحتمالات العسكرية للصراع بشكل مستقل نسبياً عن العوامل الأخرى، وسأسمّي ذلك بالاتجاهات التي اعتقد أن العسكريين يخلصون إلى تصورها عند التفكير في مستقبل حرب غزة.
أولاً- الاتجاه البسيط:
أعني به تدميراً انتقائياً وغير ممنهج من طرف إسرائيل، لقدرات "حماس" وللمجتمع الغزاوي، باستخدام مختلف أنواع الطيران والقصف المدفعي والصاروخي في ظروف حصار خانق. ويركز على ضرب قدرات "حماس" البشرية أينما وكيفما ظهرت، ويتعامل بديناميكية مع المعطيات ونتائج العمليات الجارية من دون أي قيود، مثل الامتثال لخطة مركزية أو وجود قوات صديقة في مسرح العمليات أو هجمات دفاعية مضادة أو مفاجآت خطيرة، وهو يحيد عالم الأنفاق ويجعلها عديمة الفائدة. لكن هذه الخطة تقتضي وقتاً طويلاً جداً، وقد تتداعى في أثناء ذلك الجوانب السياسية للعملية، فتفقدها الفعالية. أما من الناحية الاستراتيجية، فتنطبق عليها قاعدة حروب الاستنزاف والإنهاك، وهي أن الصراع قد يهمد لكنه لا يلبث أن يتفجر ما أن يلتقط الطرف الآخر أنفاسه.
ثانياً- الاجتياح:
يوصف الاجتياح عادة بأنه "برّي"، لافتراض وجود اشتباك شامل على الأرض بين الجيش الإسرائيلي و"كتائب القسام" وغيرها من الفصائل، لكن هذا ليس الواقع في الحرب الحديثة. وبالنظر لتجارب الصراع ضد تنظيم "داعش" في سوريا والعراق، فإن الاجتياح جوّي بالدرجة الأولى، يليه الإمساك بالأرض الخالية من الخصم بالقوات البرية. ويمكن أن يقتصر الأمر على شق ممرّين إلى ثلاثة من الشرق إلى البحر، وتدمير البنية التنظيمية لحماس فوق الأرض، ومحاولة الوصول إلى شبكة الأنفاق وتدميرها أو إغراقها بالمياه. وتقديرياً، يمكن لإسرائيل إنجاز المهمة في مدة زمنية لا تتجاوز الثلاثة أشهر، لكن اتخاذ قرار السير في هذا الاتجاه مقيد بشدة بسبب الخسائر البشرية بين المدنيين، وما يمكن أن تثيره من ردود أفعال خطيرة في الضفة الغربية ولبنان وفي كامل إقليم الشرق الأوسط. علاوة على إنهاء التعاطف الغربي مع إسرائيل، وعكس اتجاه الرأي العام حولها على نطاق واسع.
ثالثاً- استعادة 6 أكتوبر
يقوم هذا الاحتمال على فرضية انخراط "حزب الله" في العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ومحاولة القيام باجتياح بري تحت غطاء حملة صاروخية مكثفة بهدف التفاوض المشترك بين "حماس" و"حزب الله" من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. ومع أن القوات الأميركية وصلت إلى شرق المتوسط للحؤول دون حدوث ذلك، إلا أن احتماليته تبقى عالية، سواء بقرار من الحزب أو من إسرائيل التي يمكن أن تشنّ حرباً على هذه الجبهة بمجرد أن تتمكن من خياطة جرح غزة، مستعيدة الطريقة التي تعاملت بها مع الجبهتين المصرية والسورية في الحرب التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، عندما ركزت قواها على الجبهة الجنوبية ثم انتقلت إلى الشمالية.
رابعاً- الصراع الإقليمي
في حال تفجر الوضع في جنوب لبنان، وما لم تُظهر واشنطن الحزم الكافي، فإن المليشيات المرتبطة بإيران ستهاجم قواتها ومصالحها وحلفاءها في كامل الإقليم. وقد تتفجر حروب ثانوية في مناطق أخرى، وسيكون من الصعب السيطرة على الصراع وتشعباته لتعدد الفاعلين والفرقاء وكثرة الصراعات الكامنة، ومن نتائجه شبه المؤكدة تحول إيران إلى طرف مشارك بشكل رسمي، فيما ستشارك روسيا على نحو غير مباشر.
خامساً-حرب نووية
إذا نشبت حرب في الإقليم، سيكون هدفها تحجيم قوة إيران، لكن الأخيرة لديها أوراق قوة كثيرة ستطرحها دفاعاً عن موقعها. وهي قد تخلق بذلك ظروفاً مؤاتية لاستخدام إسرائيل أسلحتها النووية ضد منشآت إيران النووية وترسانتها العسكرية. وقد يتكشف الصراع عن امتلاك إيران أيضاً ذخائر نووية أو أسلحة تدمير شامل، وربما تستخدمها.
وبالعودة إلى المشهد العام ومعطياته، خصوصاً موقف الولايات المتحدة ورئيسها بايدن الذي يبدو أنه يبذل قصارى جهده لإبقاء الحريق محصوراً في غزة، والسيطرة على رغبة نتنياهو في التصعيد الأقصى، فإن الاتجاه الأول وأجزاء من الثاني، أي الاجتياح البرّي المحدود، هو الأقرب إلى الوقوع. لكن هذا لا يعني استبعاد الاحتمالات الثلاثة الأخرى، لأن بقاءها على قيد الممكن هو ما سيرسم حدود التسوية السياسية التي قد تصوغ مخرج الأزمة الحالية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها