في الليلة الثانية من "طوفان الأقصى"، مررتُ عرَضاً بجوار مقر رئيس الوزراء البريطاني، فرأيتُ واجهة "داونينغ ستريت" مضاءة بألوان علم إسرائيل، وأصابتني رعدة باردة في جسدي. برج إيفل، وبوابة براندنبورغ البرلينية، ومؤسسات الدولة في فيينا وغيرها، الجميع يرفع ألوان العلم عينه. مستويات إعلان التضامن وجماعيته ورسميته المدموغة بنجمة داوود في الفضاء المعماري الأوروبي يُذكّر بالفزعة الغربية للوقوف إلى جانب أوكرانيا.
افتتاحية لجريدة "وول ستريت جورنال" قبل ثلاثة أيام، تطلق صيحة الحرب بالنيابة: "إسرائيل تقف على الخطوط الأمامية، لكن العالم الديموقراطي هو الهدف".
على الملأ، يخرج وزير الحرب الإسرائيلي ليعلن جريمة حرب مكتملة، تكاد تكون جريمة إبادة جماعية، قطع إمدادات الماء والكهرباء والطعام والوقود كلياً عن كل سكان غزة بلا تمييز، هم "حيوانات بشرية، وسنتعامل معهم على هذا الأساس". لاحقاً يخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، فيصحح وزيره: "نتعامل مع حيوانات". يمحو نتنياهو صفة بشرية عن حيوانيتهم. الفلسطينيون مجرد حيوانات محضة، حيوانات بالمعنى الحرفي، سنجعلهم يتضورون جوعاً وعطشاً حتى الموت.
وفيما تصب طائرات إف-16 جام الغضب وقنابل الفوسفور على المباني السكنية في غزة، في عملية عنوانها الانتقام بالوصف الرسمي الإسرائيلي، تعلن حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، مجتمعة، الدعم الكامل لتل أبيب، وكأن الإعلانات الفردية ليست كافية. العالم الغربي يقول: نحن جبهة موحدة في هذه الحرب. لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها بـ"كل طريقة" و"أي طريقة". تأخذ تل أبيب صكاً مفتوحاً من سادة العالم لارتكاب ما تشاء من جرائم، بلا مواربة غربية هذه المرة. على الحيوانات أن تدفع الثمن، أما غزة فيجب تسوية ركامها بالأرض.
تنعى الصحف البريطانية، مواطنَين بريطانيَين قتلوا في الهجمات، أحدهما مجند في الجيش الإسرائيلي، والآخر فرد أمن في شركة خاصة. في شاشة "بي بي سي"، وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، تعطي الأوامر للشرطة بالتصدي لأي علامة تعاطف مع الهجمات على إسرائيل. وفي برلين، تفرق الشرطة بالقوة تظاهرة متضامنة مع الفلسطينيين، المطاردات تستمر بعيداً من "شارع العرب" ويكفي العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية كمبرر للتوقيف. الرعدة نفسها تصيبني مرة أخرى.
بلا مشاورات مسبقة، يعلن مسؤولو الاتحاد الأوروبي فجأة، تجميد الدعم المالي للفلسطينيين في غزة والضفة على السواء. المبلغ الإجمالي متواضع ومخجل، وهو في الحقيقة دعم مبطن لسلطات الاحتلال، المسؤولة بحسب القانون الدولي، عن السكان الواقعين تحت سيطرتها. لكن الرسالة واضحة. لا فرق بين حماس والفلسطينيين، ولا فرق بين الضفة وغزة، ولا بين السلطة والمقاومة الإسلامية، هذا عقاب جماعي على كل فلسطيني. يتراجع مسؤولو الاتحاد مرتين وثلاث، مرة بالنفي ومرة بالتأكيد، ثم بالنفي أخيراً. تجمد كل من ألمانيا والنمسا المساعدات بشكل منفرد، وتعلن بريطانيا مراجعة دعمها التنموي للفلسطينيين.
صرخة القتال التي أطلقتها الحرب الأوكرانية في أوروبا، تتحفز نارها بشكل غريزي لتمتد إلى غزة وفي صور عقوبات جماعية يحمل وزرها كل الفلسطينيين. هذه لحظة تاريخية يشعر خلالها الغرب، وبالأخص أوروبا، باهتزاز عميق للثقة في النفس. لم تعد مكانة الغرب على قمة العالم مضمونة كما في الماضي. حرب مؤلمة وطويلة وغير مضمونة النتائج على أطراف أوروبا، أو يمكننا القول داخلها. لاجئون بيض وشقر بالملايين، واقتصاديات تعاني بشكل متواصل ولا أفق لتحسن قريب، تتفاقم الأزمة الديموغرافية لقارة تشيخ بوصول آلاف اللاجئين والمهاجرين عبر البحر وعلى الحدود وبلا توقف.
كان الصعود الصيني مسألة وقت بالنسبة للأميركيين، وأصبح واقعاً يثير هوساً عصابياً في واشنطن. أما أطراف العالم، فتفلت رويداً رويداً من البرازيل والهند إلى السعودية وغيرها. نظام العالم ما زال قائماً بالطبع، لكن الجميع يدرك أن هذا لن يستمر لوقت طويل.
ولهذا، فإن الانهيار المفاجئ للحدود الغربية داخل الشرق الأوسط، ولو لساعات، جعل القلب الغربي المتوتر والمليء بالمرارة يرتجف. لم يعد من الممكن التظاهر بالثقة في المناعة البيضاء وإطلاقها أمانها المفترض. ثمة حرب تخوضها أوروبا الكبرى أو العالم الديموقراطي أو أياً كانت التسمية، أو لنكون أكثر دقة، ثمة حروب يخوضها الآخرون بالنيابة عن الغرب.
تحركت قطع الأسطول الأميركي ووصلت إلى مياه المنطقة، ومعها المزيد من الطائرات، علامة على التضامن مع إسرائيل، وأعلن البنتاغون أنه قادر على تزويد أوكرانيا في الوقت نفسه، بالذخيرة والأسلحة. يحارب "العالم الديموقراطي" على جبهتين، وسيدفع الفلسطينيون ثمناً فادحاً لعدم الحسم على الجبهة الأخرى. الحرب الطويلة والمرهقة في أوكرانيا سيتم تعويضها بانتقام همجي ومكثف وسريع من غزة ومن الفلسطينيين، انتقام أمثولة يشفي غليل الغرب ويعوض شعوره المتنامي بالهشاشة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها