- "لقد فات الأوان، أنتم فلسطينيون بالفعل، ونحن إسرائيليون بالفعل... هكذا رد الشاعر الفلسطيني محمود درويش على صحافي إسرائيلي".
الاقتباسان أعلاه من حوار مع الكاتب الجزائري الفرنسي، كمال داود، في مجلة "لوس أنجليس ريفيو أوف بوكس"، في الأول من الشهر الجاري. العبارات الأولى من ذلك الاقتباس القصير من شأنها تثبيت الشتائم التي أُطلقت في حق داود في وطنه الأم وفي أماكن أخرى، بمجرد إعلان فوزه بجائزة "غونكور" عن روايته "الحوريات" قبل أيام قليلة. ومن تلك الشتائم: "ابن فرنسا" و"الخائن" و"الجزائري الكاره لنفسه"، وكان أسوأها وأكثرها مهانة بلا شك "الحركي". لكن سرعان ما اتضح أن داود يختم حواره بمقولة لمحمود درويش وعبرها يعقد مقارنة بين سياقين استعماريين.
ليست هذه هي المرة الوحيدة التي يستلهم فيها داود كاتباً فلسطينياً. فروايته الأولى، "معارضة الغريب"، تبدو كبيان جمالي يستلهم النقد القاسي الذي وجهه إدوارد سعيد إلى أدب الكاتب الفرنسي الجزائري (أو المولود في الجزائر) ألبير كامو، وذلك في فصل من كتاب سعيد "الثقافة والإمبريالية"، عنوانه "كامو والتجربة الإمبريالية الفرنسية". والجدير بالذكر أن سعيد أيضاً لم يكن فلسطينياً فقط، بل أسير تلك الثنائيات المتناقضة -مثله مثل كامو ومثل داود الحامل للجنسية الفرنسية-كونه أميركياً بقدر كونه فلسطينياً.
"أأنا أحن إلى جزائر العصر الفرنسي؟ كلا! يبدو أنك لم تفهم شيئاً. أردت بالضبط أن أقول لك إننا، نحن العرب، أعطينا في تلك الحقبة انطباعاً أننا ننتظر، ولا ندور في حلقة مفرغة كما هو الحال اليوم".
على لسان هارون، بطل روايته "معارضة الغريب"، ينفي داود عن نفسه تهمة الحنين إلى عهد الاستعمار. بل على العكس تماماً، ما يقوم به في تلك الرواية هو محاولة منح اسم للعربي المقتول ومجهول الاسم في "غريب" كامو، هذا الاسم هو موسي، ومعه يصير للمستعمر الذي قتل بسبب ملل البطل الفرنسي، حكاية وحياة، والأهم حق يمكن المطالبة به. حين صدرت طبعة دار "أكت سود" من "معارضة الغريب" في العام 2014، استُقبلت الرواية بحفاوة في الأوساط الأكاديمية والنقدية باعتبارها عملاً ما بعد استعماري، يعارض النص الغربي، ممثلاً في "غريب" كامو، ويمنح صوتاً للتابع ويسائل في الوقت نفسه موقع النص الكولونيالي في المتن الأدبي بالعموم. وفي الوقت ذاته انتُقدت رواية داود في بعض الدوائر الما-بعد استعمارية، بوصفها إعادة مركزة للمكرس الغربي ومحاولة للتسلق عليه أو الانتساب إليه من الأسفل.
لكن داود ما بعد استعماري عن حق، إنما ليس بمفهوم إدوارد سعيد. بل هو أقرب إلى ما بعد استعمارية فرانز فانون، الذي تنبأ وهو في الجزائر بالمصير السلطوي للدول الوطنية بعد الاستقلال. بالتقدم في رواية "معارضة الغريب"، يتضح أن كاتبها لا يكتفي بنقد الماضي الاستعماري، بل يوجه جل نقده إلى دولة الاستقلال الجزائرية والأصولية الإسلامية. في أكثر من حوار، يحيل داود إلى فانون بشكل مباشر، فإن كان هو "من وصف الجسد المشلول للمستعمر، لكن بعد الاستقلال، وجد المستعمر نفسه متحجراً في وضعية الانتصار". يحاول داود في نقده للحاضر الجزائري مغادرة الماضي وفك الارتباط مع سردية حرب الاستقلال، تلك التي كرست حاضراً أبدياً.
على شاكلة سلمان رشدي، الكاتب الما-بعد استعماري بداية قبل أن ينحدر إلى الإسلامافوبيا، يتسع الفارق بين مواقف داود السياسية المعلنة وبين روايته الأولى. فنقده الحاد للأصولية الإسلامية في أدبه يتحول إلى مواقف تعميمية شديدة الاختزال والتبسيط ضد المسلمين والعرب وبني وطنه الجزائريين تحديداً، بشكل سيتماهى مع مقولات اليمين الفرنسي، وسيبدو اعتذارياً وتبريرياً، لا للاستعمار في الماضي، بل للحروب الاستعمارية في الحاضر. وكانت واحدة من آخر سقطاته وأكبرها، في مقاله في أكتوبر العام الماضي، المعنون: "رسالة إلى صديقي الإسرائيلي الذي لا أعرفه".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها