قد يحق لوزير خارجية ايران السابق ومسؤول ملف التفاوض النووي محمد جواد ظريف ان يفتخر بأنه استطاع انتزاع الاتفاق النووي عام 2015 (او خطة العمل المشتركة الشاملة) من براثن الدول الست التي كانت تجلس على الطرف الاخر من طاولة التفاوض.
بغض النظر عن الهجوم وحملة الاعتراض التي واجهها ظريف وفريقه في الداخل الايراني من قبل التيار المحافظ والمتشدد على خلفية اتهامه بتقديم تنازلات على حساب المصالح القومية والوطنية والاستراتيجية للدولة والنظام، وبانه ساهم في تدمير الطموحات الايرانية في التحول الى دولة نووية "سلمية" من خلال الموافقة على تفكيك منشآت بناء اجهزة الطرد المركزي وعمليات تخصيب اليورانيوم، بالاضافة الى تخريب مفاعل اراك لانتاج البلوتونيوم بالماء الثقيل.
اهمية الاتفاق الذي انجزه ظريف وفريقه برعاية من رئيس الجمهورية آنذاك حسن روحاني، بدأت تتكشف مع وصول المفاوضات التي يقودها فريق الحكومة الجديدة برئاسة علي باقري كني الى حائط مسدود وارتفاع وتيرة الحديث العلني عن اخفاق الاطراف المتفاوضة التوصل الى اعادة احياء اتفاق 2015، واعتراف هذا الفريق بان الجهود التي بذلها في فيينا على طاولة التفاوض لم تكن سوى السعي والعمل لاعادة احياء الاتفاق القديم، الذي كان محل اعتراض من التيار المتشدد، وتحديدا كبير المفاوضين باقري كني والجناح الذي ينتمي اليه المحافظون.
يمكن القول ان الفريق الايراني المفاوض، القديم مع ظريف والجديد مع باقري كني، يدرك أن الطرف الرئيس في التفاوض هو الجانب الامريكي الذي يملك حصرية اعطاء الضوء الاخضر للتوقيع والتنفيذ او التعطيل والعرقلة، على الرغم من ان الصيغة النهائية للاتفاق وضعت جميع الاطراف المشاركة في التفاوض على مستوى واحد بتضمين الاتفاق شرط توقيع جميع الاطراف المشاركة ليأخذ الاتفاق صفة التنفيذ، ومن هنا، فان التأخير في الاعلان التوصل الى اتفاق نهائي كان في كلا الدورتين مرتبطا في بعض مراحله بمطالب وشروط احد الاطراف المفاوضة غير الطرف الامريكي.
ان يعترف ظريف في التسريب الصوتي الشهير الذي كشف عنه اواخر عام 2021 بان المفاوض الروسي وتحديدا نظيره سيرغي لافروف حاول جاهدا وضع العراقيل امام مساعي الانتهاء من المفاوضات والاعلان عن الاتفاق، ويؤكد بان موسكو لم تكن ترغب في توصل ايران الى تفاهم واتفاق مع واشنطن والدول الاوروبية. هذا الاعتراف، الذي لا شك انه اطلع عليه قيادة النظام والجهات المعنية برسم السياسات الاستراتيجية، كان من المفترض ان يشكل جرس انذار او محطة توقف لدى الفريق المفاوض الجديد، يساعده في ممارسة المزيد من الحذر في التعامل مع الجانب الروسي والحذر من المطبات التي يمكن ان يضعها امام جهود اعادة احياء الاتفاق النووي.
تأكيد منسق العلاقات السياسية والخارجية في الاتحاد الاوروبي جوزيب بوريل ان المسودة النهائية للاتفاق وضعت على طاولة التوقيع، الا ان المطالب الروسية اطاحت بالخطوة النهائية، واسقطت كل الذرائع التي اعلنها الفريق الايراني عندما حاول رمي كرة التعطيل في الملعب الامريكي واتهمه برفض التعامل الايجابي مع المطالب الايراني، خاصة في ما يتعلق برفع العقوبات عن مؤسسة حرس الثورة وتقديم ضمانات "سياسية" بعدم الانسحاب من الاتفاق مستقبلا.
اذ سرعان ما اعترف المفاوض الايراني وبعد الاعلان عن عودة كبير المفاوضين باقري كني الى طهران، ان العقدة المستجدة لا علاقة لها بالمطالب الايرانية، وان التأكيد على مسؤولية الادارة الامريكية بالمماطلة في اتخاذ القرار السياسي من المطالب الايرانية، لا يدفع باتجاه تعطيل او اخفاق المفاوضات والاطاحة بامكانية التوصل الى اتفاق. بل ان التعطيل والسبب في عودة مندوبي الدول المشاركة الى عواصمهم، تتعلق بالمستجد الذي برز مع المطلب الروسي بضمانات امريكية مكتوبة تطمئن المخاوف الروسية من حرمان موسكو الاستفادة من نتائج الاتفاق في ظل سلسلة العقوبات التي فرضت عليها من امريكا والاتحاد الاوروبية على خلفية الازمة الاوكرانية.
الموقف الروسي اطاح برهانات جميع الاطراف بضربة واحدة، فهو من ناحية، قطع الطريق امام جهود إيران للانتهاء من ازمة الاتفاق النووي والتخلص من العقوبات والعودة الى ممارسة دورها الطبيعي التجاري والاقتصادي والمالي في الاسواق الدولية، واطاح بالرهانات الاوروبية والامريكية بامكانية ان تلعب ايران المصدر البديل في تأمين مصادر الطاقة في قطاعي النفط والغاز نتيجة العقوبات التي فرضتها على روسيا، وبالتالي تأمين استمرار الامدادات في هذا المجال من ناحية، واستكمال دائرة الحصار الخانق الذي يفرض على روسيا من ناحية اخرى.
يبدو ان دوائر القرار في ايران غير قلقة من العودة للسير على حافة الهاوية، وعدم اخذ العبرة من تجربة رئيس الدبلوماسية السابق ظريف، او على الاقل وضعها في الاعتبار. اذ يبدو انها تنظر الى حاجة الدول الغربية (واشنطن والترويكا الاوروبية) للاتفاق، وحتمية عودتها – هذه الدول - الى التفاوض من اجل احيائه وتنشيطه، خاصة وان آليات الغاء العقوبات عن ايران ستكون اكثر يسراً وسهولة منها على روسيا حتى بعد انتهاء العملية العسكرية في اوكرانيا، لجهة انها ستكون مرتبطة بالاثار السياسية والجيواستراتيجية والجيوسياسية لهذه العملية.
وفي البناء على هذه القراءة، يمكن فهم الموقف الايراني الرافض لما اسمته طهران "عروضا ملتوية" امريكية واوروبية، على غرار العروض التي قدمت لفنزويلا، بدخول شركات اوروبية وامريكية لتطوير قطاعي النفط والغاز بديلا من الشركات الروسية، كضمان لعدم صدور عقوبات ضدها مستقبلا، خاصة وان التجربة الايرانية السابقة مع شركتي توتال الفرنسية وايني الايطالية والشركات الكورية الجنوبية غير مشجعة بعد ان تخلت عن عقودها مع اعادة واشنطن للعقوبات عام 2018 على يد الرئيس السابق دونالد ترمب.
نتائج المخاطرة الايرانية بالسير على حافة الهاوية من جديد، رهن بتطورات الازمة الاوكرانية، فاما ان تطيح بكل الجهود وتعيد الامور الى دائرة الصفر من جديد في حال فشلت موسكو في تحقيق اهدافها، واما ان تفتح الطريق امامها للحصول على المزيد من المكاسب!.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها