على الرغم من سياسة "الحياد الإيجابي" الذي اعتمده النظام الإيراني في التعامل بداية مع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عام 2001، ولاحقا مع احتلال العراق 2003، إلا أنه وفي لحظة تاريخية مفصلية، وجد نفسه محاصرا بين فكي كماشة امريكية بعديد جنود يتجاوز الثلاثمائة ألف مقاتل بكامل تجهيزاتهم البرية والجوية والبحرية، منتشرين على حدوده الشرقية والغربية – الجنوبية. ما رفع مخاطر استهدافه، خاصة بعد ان عمد الرئيس الأمريكي الاسبق جورج دبليو بوش إلى التنكر للمساعدة الايرانية، واعلن وضع النظام في دول محور الشر.
هذه المخاوف، تضاف لها أزمة انكشاف انشطته النووية التي بقيت حتى ذلك التاريخ تجري في سرية وبعيدا عن أنظار المجتمع الدولي والمؤسسات الاممية المعنية بهذه الانشطة، كالوكالة الدولية للطاقة الذرية، دفعت النظام لاعادة ترتيب اولويات في التعامل مع الحقائق المستجدة في محيطه الحيوي، أو ما يعرف في الأدبيات الايرانية والامريكية بمنطقة غرب آسيا، معتمدا على تجميع اوراقه الاقليمية وتوظيفها في إطار استراتيجية تحقق له وتساعده على تفكيك وكسر الطوق الذي بدأ يضيق حول مصالحه ودوره وحتى استمراريته.
هذه الاستراتيجية الجديدة، سمحت للنظام في طهران بتحويل المنطقة الى مستنقع حقيقي امام الوجود الامريكي، وإلهائه واشغاله بالجماعات الرافضة للاحتلال تحت عناوين مختلفة. بحيث سمحت لامين المجلس الاعلى للامن القومي حينها علي لاريجاني لتقديم نصيحة للادارة الامريكية بضرورة الانسحاب من العراق وافغانستان، شرط التنسيق مع ايران، حتى لا تدخل في مستنقع الفوضى والاستهداف. فضلا عن ان الرئيس الايراني عام 2004 محمد خاتمي اعلن استعداد بلاده لمساعدة واشنطن لتأمين انسحاب مشرف من العراق.
من ناحية اخرى، وفي البعد الاخر لهذه الاستراتيجية، وظفت ايران جهود مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي خافيير سولانا والترويكا الاوروبية (فرنسا وبريطانيا والمانيا) التفاوضية حول الملف النووي، لتأكيد مخاوفها من الانتشار الامريكي في منطقة غرب آسيا، وما يشكله من تهديد لامنها واستقرارها، خاصة وان الادارة الامريكية لم تدخل اي تعديل على عقيدتها تجاه النظام والعمل على تغييره، لذلك حاولت استغلال الحاجة الدولية لوقف البرنامج النووي من اجل الحصول على ضمانات امنية، فضلا عن تكريس رؤيتها ومطلبها بعدم تحويل المنطقة الى ساحة عمل ونفوذ لقوات حلف الناتو في حال قررت الولايات المتحدة الامريكية الانسحاب من المنطقة.
في المقابل، سعت ايران لاعادة انتاج مفهومها للامن القومي، من خلال احياء الرؤية التي بدأت بالتبلور في العهد الملكي في ما يتعلق بالدور الجيوسياسي لايران في محطيها، وكيفية تعزيز دورها الممسك بامن المنطقة من خلال التفويض الذي حصلت عليه من الولايات المتحدة الامريكية ك"شرطي الخليج". وعملت على تعزيز قدراتها وتوسيع نفوذها في المنطقة من خلال دعم حلفائها ودفعهم للامساك بزمام المبادرة والقرار سواء في العراق ولبنان وفلسطين، ومؤخرا سوريا واليمن، من دون اهمال مصالحها باتجاه اسيا الوسطى والقوقاز وشبه القارة الهندية من البوابة الافغانية. الامر الذي سمح لها بطرح رؤيتها الجديدة حول الامن الاقليمي، ورفض اي وجود عسكري أجنبي سواء امريكي مباشر او غير مباشر عبر الناتو في هذه المنطقة، خاصة الخليج. على مبدأ ان دول المنطقة قادرة على توفير الامن واقامة منظومة دفاع وأمن خاصة بها من دون الحاجة لوجود قوات اجنبية وغربية فيها، وقد وضعت هذه الرؤية مبكرا على طاولة التفاوض امام "سولانا" في تشرين الاول اكتوبر 2004 بالتزامن مع الاعلان عن اول اتفاق مع الترويكا الاوروبية حول تعليق انشطة تخصيب اليورانيوم.
النظام الايراني لم يتخل عن رؤيته الاستراتيجية هذه المتعلقة بامن منطقة الخليج وبناء منظومة امنية بمحورية ايران وقيادتها التي تعتمد على ما حققته من دور ونفوذ وتقدم عسكري يجعلها غير محتاجة لمظلة امريكية لفرض هذه الاستراتيجية، الا انها كانت في المقابل، بحاجة الى قبول وموافقة دول المنطقة، خاصة الخليجية على ذلك، في وقت كانت هذه الدول تقع تحت وطأة الخوف من هذا الدور المتنامي والنفوذ الايراني الذي تصفه بالمزعزع لامنها الداخلي واستقرارها. الامر الذي جعلها تتعامل مع اي طرح او مشروع ايران، ومؤخرا مع مشروع "امن هرمز" الذي حاول الرئيس السابق حسن روحاني الترويج له من ضمن رؤيته الاستراتيجية لبناء "منطقة قوية" بالكثير من الحذر، خاصة بعد تداعيات الاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع ادارة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما عام 2015 والذي اطلق يد ايران في المنطقة بغض نظر امريكية على حساب مصالح دول المنطقة وامنها واستقرارها.
في الايام الاخيرة، وعلى هامش قمة الدول المنتجة والمصدرة للغاز " GECF" الذي عقد في العاصمة القطرية الدوحة عشية الغزو الروسي لاوكرانيا، اعاد الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي المشارك في هذه القمة الحديث عن بناء منظومة امنية اقليمية من دول المنطقة، لا يكون لامريكا ودول حلف الناتو اي دور فيها.
مع تصاعد الازمة الاوكرانية، وبانتظار تبلور الصورة بشكل اكثر وضوحا، خاصة ما يتعلق بتردد دول حلف الناتو، حد العجز- في التدخل لصالح كييف ومواجهة الغزو الروسي، والذي ترك اوكرانيا وحيدة في مواجهة الاستراتيجية موسكو للامن القومي والمجال الحيوي. يجلس النظام الايراني بانتظار ان تكتمل الرؤية عند دول المنطقة بضرورة الذهاب الى تفاهمات اقليمية بعيدا عن المنظومة الامريكية والغربية التي كشفت التجارب الاخيرة من افغانستان وصولا الى اوكرانيا بانها غير قادرة على توفير الامن لاي من الدول الحليفة لها "حتى استراتيجيا" من خارج حلف الناتو او من داخله. ما يساعد على الدفع برؤيتها لاقناع هذه الدول في بناء منظومة امنية خاصة بقدرات ذاتية من دول المنطقة بعيدا عن وجود اي قوة اجنبية عاجزة عن تأمين وتوفير امنها واستقرارها والدفاع عن مصالحها الحيوية والاستراتيجية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها