مؤخراً، تلقى جمهور الثورة السورية أخباراً غير سارة، تشير إلى تراجع متسارع في التأييد والدعم لقضيتهم، وميل متصاعد من القوى الإقليمية والدولية لتعويم نظام الأسد. لكن، لم تصدر أي استجابة عن هذا الجمهور، الذي اكتشف عدم حيازته أدوات مستقلة تُمكّنهُ من خوض صراع سياسي.
أنشأ السوريون، منذ الأيام الأولى للثورة، مؤسساتهم الثورية والإعلامية والطبية والاغاثية والمدنية والحقوقية والبحثية والعسكرية، التي واكبت الحدث وصنعته وقادته ليكون الأبرز عالمياً في العشرية الماضية. لكنهم فشلوا في تأسيس كياناتهم السياسية.
منذ العام 2013، فوض سوريو الثورة بعض القوى الخارجية لاتخاذ قرارات تخص مصيرهم. ووصلت على أثر ذلك، ثلّة من الساسة الجدد المغمورين، عبر توصيات من الدول المعنيّة، إلى قيادة مؤسسات الثورة. منذ ذلك الحين، ساد الجمود تلك المؤسسات، ولم تعد تتحرك إلا بأوامر وتوجيهات الداعمين، إلى حد أُفرِغَت فيها تلك المؤسسات من السياسة وأصبحت صناديق بريد إقليمية ودولية.
وإن كان غير مجدٍ الآن الاسترسال في تقصي أسباب ذلك الفشل، يبدو ضرورياً البحث عن حلّ عملي وفعال يُمكّن جمهور الثورة من معالجة المتغيرات الاستراتيجية المتسارعة. وهنا، يبدو مهماً القاء الضوء على بعض البديهيات الغائبة عن جمهور الثورة وسياسييها.
استعصاء المشهد السوري الحالي يحيل تلقائياً إلى الأيام القليلة التي سبقت اندلاع الثورة، عندما كان المزاج العام قانطاً من إمكانية التغيير. حينها، أخذت مجموعات من الشبان زمام المبادرة وتظاهرت بالآحاد هنا وهناك، وسرعان ما اجتذبت آخرين، وما هي إلا أسابيع حتى ضجت شوارع سوريا وميادينها بملايين المتظاهرين الذين صنعوا منعطفاً في تاريخ منطقتهم والعالم. يشير ذلك إلى بديهية أولى في العمل السياسي: إنها عملية "تجميع قوى". وإذ بقيت عواطفهم وأفكارهم عن التغيير حلماً يراودهم حتى صرخ أحدهم في الشارع: "الشعب يريد إسقاط النظام". لكنها عادت إلى منطقة الوهم حين رحّلوا فعاليتهم إلى وسائل التواصل الافتراضي، وهذا مدار البديهية الثانية: العمل السياسي يقتضي الحضور الفيزيائي. إنه نقطة العبور من الحلم إلى الحقيقة المتعينة. وعلى الطامحين للعمل السياسي اليوم أن يخرجوا للقاء مواطنيهم، فأزمة الثقة عميقة بين الطرفين، ووسائل التواصل الافتراضية تلقي مزيداً من الظلال عليها على عكس ما نتصور. والبديهية الثالثة هي أنه لا عمل ينطلق ويستمر من دون محركات بشرية نشطة تطلق المبادرة وتلاحقها بدأب وإخلاص، وتنذر نفسها وحياتها لإتمام المهمة.
البديهية الرابعة هي البناء من الأسفل إلى الأعلى. فكل هياكل القوة السورية الثورية بُنيت على الاحتياجات الواقعية والأهداف المنظورة، ونُفّذت بالإمكانات والموارد المتاحة، فيما فشلت كل محاولات التصنيع التي انطلقت من أفكار أو نظريات. وهذا لا يعني أن البناء من الأعلى ليس ممكناً في بيئة أخرى، بل لعله يصير ممكناً في البيئة السورية ذات يوم، لكن اللحظة العاصفة التي نعيشها تقتضي التجذر في المجتمع.
أما البديهية الخامسة، فتتعلق ببرنامج العمل، الذي يوجزه لينين بالقول: "لننخرط ونرى!". فالأحداث السياسية في هذا العصر تجري على نحو خاطف، وإن فوتنا الاشتباك معها لحظة وقوعها، فلربما لن يكون ممكناً أن نؤثر فيها لاحقاً، مهما كانت خططنا دقيقة وخلفياتها النظرية معمقة.
الاستناد على تلك البديهيات سيخلق تنظيمات سياسية متصاعدة القوة، أما شكل هذا التنظيم أو التنظيمات المقترحة فهو بلا شك ليس على غرار التنظيمات التي طالبتنا بها الأمم المتحدة: "شاملة وتمثل كافة أطياف الشعب". الوصول إلى كيان يمثل كافة السوريين بمصداقية، لا بد أن يمر بانتخابات شاملة وحرة، وهو ما لم يحدث بعد، وللاعتبارات العملية يجب أن يتجه المتشابهون لتشكيل كيانات سياسية تجمع قواهم، على أن يكون بمستطاعها التأثير في بيئة معينة وإنشاء شبكات اجتماعية متماسكة وفعالة.
سيعترض كثيرون بأن هذه الدعوة تنطوي على خطر "الانقسام الاجتماعي"، لكن خبرة الثورة تقول أن تشكّل مجالس أو مؤسسات جهوية ومناطقية وحتى فئوية أو عشائرية وطائفية، لم يمنع من توحيدها عندما اقتضت المصلحة العامة. وليس بجديد القول إن مجتمعاتنا متنوعة ثقافياً ودينياً وعرقياً، وإنكار هذا التنوع كان أبرز مشاكل السوريين مع نظام "البعث"، والاعتراف به هو نقطة الانطلاق الصحيحة للوصول إلى تفويض حقيقي، كما أن هذا النوع من التنظيم سيكون مدخلاً لالتحاق كافة المجتمعات السورية بالعمل السياسي وتخفيف حدة التوترات الطائفية والعرقية بتحويلها إلى موضوع نقاش سياسي بدلاً من كونها حالة من التصادم العقائدي.
إن قوى من هذا النوع يحق لها أن تنشئ "ائتلافاً"، وأن يكون مرشحوها أعضاء "لجنة دستورية"، وستقطع حينها الطريق على الانتهازيين الذين شاركوا بتبعية القرار الوطني، وتُمكّن الفئات التي تم إقصاؤها أو تهميشها من المشاركة بصنع القرار. هذا ناهيك عن طيف واسع من الأنشطة والإجراءات التي يمكن للكيان السياسي الانتقاء منها بما يتناسب مع إمكاناته في اطار التنافس مع الكيانات الأخرى على الشرعية والمكانة، وتضفي الطابع المؤسسي على العمل السياسي، الذي يجعله جديّاً، ويفرز قيادات سياسية ذات طابع اجتماعي، مجرّبة وموثوقة.
لا غنى عن الحزب السياسي في المجتمعات المعاصرة، وما زالت بعض الأحزاب التي لا يتجاوز عدد منتسبيها الآلاف، تحدد مصير مجتمعات العالم الحر. وسيكتشف السوريون بدورهم، ذات يوم، الإمكانات التي تنطوي عليها هذه الأداة لحل مشاكلهم المزمنة على قاعدة التسويات وقبول الآخر. لكن، قبل الوصول إلى تلك اللحظة السعيدة البعيدة، يجب أن يدركوا اليوم أن مرحلة الثورة بكامل تضحياتها ومنجزاتها ومؤسساتها مهددة بالضياع والتلاشي، ما لم يحمِها "لاعب سياسي" أو أكثر، من التقلبات الحادة التي تعصف ببيئتها الاستراتيجية. ولو كان لدينا اليوم أحزاب، لذهبت للتظاهر أمام سفارات الأردن في بقاع العالم احتجاجاً على التطبيع مع النظام، وأوفدت الوفود إلى الدنمارك وتركيا وغيرها لحماية اللاجئين. وضغطت لجعل عمل اللجنة الدستورية شأناً سورياً، وجعلت من إعادة رفعت الأسد إلى سوريا من دون عقاب، قضية رأي عام فرنسي وأوروبي. كل هذا كان ممكناً الشهر الماضي، فقط.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها