في عامه الأخير في الحكم (وفي الحياة)، وقف أنورالسادات، الرئيس المصري الراحل، في قاعة البرلمان، مدافعاً عن اتهامه ببناء استراحات رئاسية عديدة على نفقة الدولة (نعم، إلى هذا الحد يكرر التاريخ نفسه). لكن السادات، الذي اشتهر في الوجدان الجمعي المصري بوصفه "صايع سياسة"، أدار الموقف بمهارته الدرامية المعهودة: "بيقولوا الرئيس عنده 35 استراحة بَنَتها له الدولة، هما مش 35، هما أكثر من 100 استراحة"!
وبعدما تمكن من جذب كامل الانتباه، تابَع الرئيس الذي اغتيل بعد أيام من ذلك الخطاب: في كل مكان أذهب إليه هناك استراحة، ولكن، لم تُبن استراحة واحدة منها خلال فترة حكمي، ولتخرج لجنة منكم –مخاطباً أعضاء البرلمان- للتحقق من ذلك".
بعد 38 عاماً، لم يطلب الرئيس عبدالفتاح السيسي من البرلمان، ولا من حضور "المؤتمر الثامن للشباب"، التحقق من كلامه، لا لأنه يعتمد فحسب على "حالة الثقة بيننا"، لكن لأنه لم ينكر من الأصل بناء القصور الرئاسية الجديدة في عهده، بل ومواصلة بنائها في المستقبل.
وللحظة أو اثنتين، حلّقت المفارقة الساخرة في سماء القاعة، حين تساءل الرئيس مستنكراً: "بقى النهاردة، تبقى القصور الموجودة في مصر، بتاعة محمد علي وبس؟".. سؤال دفع القاعة إلى الصمت المتحيّر، قبل أن يبتسم الرئيس، فيأذن للحضور بالضحك. فهو يقصد محمد علي باشا، الموصوف –عن حق- بأنه باني مصر الحديثة، والذي لم تكف صفحات الانترنت عن مقارنة اسمه وصورته بمحمد علي المقاول، قبل أن تنتقل تلك النكتة إلى كلمة الرئيس نفسه من دون قصد، أوربما كانت -بالنسبة للبعض- تورية مقصودة. فالرئيس "ها يعمل قصور ويعمل ويعمل"، وليس لعدم الاكتفاء بقصور محمد علي الباشا فحسب، بل ولا حتى بالقصور التي ساهم في إنشائها محمد علي المقاول.
وواقع الأمر، إنه حتى محمد علي باشا نفسه، الذي حكم مصر قبل قرنين من الزمان، ولمدة زادت عن 40 عاماً، لم يبن الكثير من القصور، ليس سوى قصره الأقدم في شبرا، وقصر الحكم "الجوهرة" في قلعة صلاح الدين (الذي صار متحفاً الآن)، وقصر رأس التين في الإسكندرية الذي لم يتمكن من سكناه إذ انتهى بناؤه حين كان الباشا في أواخر أيامه. ومع ذلك فقد تركت الأسرة العلوية في مصر، خصوصاً الخديوي إسماعيل والملك فاروق، عشرات القصور الهائلة فائقة الجمال، والتي صممها أبرع مهندسي أوروبا في ذلك العصر الذهبي للعمارة، ومنها في القاهرة وحدها: قصور عابدين، العروبة، القبة، والطاهرة، وغيرها مما بني لتحقيق الرغبة الخديوية في أن تصير القاهرة في زمنها الذهبي "باريس الشرق". فقد كان ذلك زمن تنافس الملوك في إنشاء القصور، كبرهان على الغنى والقوة والقدرات المعمارية والفنية. واليوم، في زمن "المواطن"، لا تجرؤ أغنى الحكومات على شراء ماكينة قهوة لا لزوم لها من المال العام، ولا يُنظر إلى من يبني القصور كالنظرة إلى لويس الرابع عشر، بل كالنظرة إلى صدام حسين، خصوصاً في بلد مثل مصر، قد يفتقر إلى الكثير من الأشياء، لكنه بالتأكيد لا يعاني نقصاً في القصور الفخمة.
وأيًّا كان، وبعدما اضطر الرئيس للرد بنفسه على المقاول محمد علي، ما أثبت خواء منظومة البروباغندا التي استغرق بناؤها سنوات، ومليارات الجنيهات، وبعدما أقرّ الرئيس ببناء القصور وبالنيّة في مواصلة بنائها... أُسقط في أيدي مؤيديه ممن واظبوا طوال أسبوعين على تكذيب المقاول محمد علي، ومطالبته "بالوثائق التي تثبت صحة ادعاءاته"، وصاروا فجأة في حاجة إلى خطاب جديد، سرعان ما قفز إلى ألسنتهم: "القصور الرئاسية الجديدة استطاعت أن ترفع سعر الأراضي الصحراوية من قيمتها البخسة إلى آلاف الجنيهات". وهو ما يمثل، من وجهة نظرهم، إنعاشاً للاقتصاد وحركة للاستثمار. ويمكن الاكتفاء بالسخرية من هذا الهذيان الاقتصادي، باقتراح أن يتم تعميم تلك الفكرة اللامعة على بلدان العالم الثالث التي تكافح الفقر: "ابنوا قصوراً رئاسية لينتعش اقتصادكم"!، ويمكن أيضاً، في تفسير سريع وبسيط، الشرح بأن نقل المال عبر تجارة الأراضي من هذه اليد إلى تلك، لا يضيف شيئاً إلى النموّ الاقتصادي الذي لا يتحقق إلا بزيادة الإنتاج، أو بإيجاد مصادر مؤثرة للنقد الأجنبي (انسحب الشريكان الإماراتي والصيني بالفعل من مشروع العاصمة الإدارية الجديدة التي يدور حولها معظم الجدل في مصر)، بل إن هذا النقل قد يساهم في الركود وخلق "الفقاعة العقارية".
غير أن "المؤيدين"، رغم تناقص أعدادهم، ما زالوا يتمسكون بالسراب. وكما تمسكوا من قبل بحلم الثروات المتخيلة من "قناة السويس الجديدة" و"مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي"، فهم اليوم ينتظرون الرخاء من القصور الرئاسية. رغم أنه، حتى في القصص الخيالية، وألف ليلة وليلة، لم يستفد علاء الدين من القصر السحري الذي أنشأه له جنّي المصباح في الصحراء، إذ ارتفع القصر من العدم في لمح البصر، لكن خدعة علاء الدين انكشفت في النهاية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها