كانت مفاجأة بالنسبة لي حين اكتشفت أن الشيخ العلامة الطاهر ابن عاشور أورد في تفسيره، التحرير والتنوير، أن "شعر المرأة" من الزينة الظاهرة التي استثناها الله سبحانه في قوله: "إلا ما ظهر منها"، ليست المفاجأة في كونه يسجل هذا الرأي، إنما في كونه الشيخ الأصولي التقليدي المنتمي لبيئة العلوم الشرعية التراثية المتقيد بإكراهاتها، ومع ذلك تدفعه أمانته العلمية لإثبات رأي مر عليه في تفسيره الذي اتسم بإحاطته بالتراث التفسيري إلى الحد الذي قيل معه، في مبالغة، أن قراءة التحرير والتنوير تغنيك عن كل ما سبقه!
ليس من السهل أن يعترف "شيخ" معمم برأي كهذا، حتى لو عزاه إلى غيره، وكم من الشيوخ والعلماء قابلت يخشون نقل الكثير من آراء السابقين، أو آرائهم، خوفا من رفض المجتمع لها، خاصة في ما يتعلق بالمرأة، المجتمع هنا أقوى من التراث وأقوى من النص نفسه ولا يملك الفقيه، إذا أراد الحفاظ على مكانته الاجتماعية، إلا مجاراته، الرأي نفسه وجدته في "تفسير دروزة" وبشكل أكثر وضوحا، وتفصيلا، وهو رأي آخر ينضم إلى مرحلة ما قبل القراءة الحداثية، قبل أن يجترح الباحثون الحداثيون هذه المساحة، ويخلصوا للنتائج نفسها عبر الاستنباط المباشر من النصوص دون التقيد بآراء السلف!
كان الشيخ طه العلواني يخبرنا أن فقه المرأة هو أكثر فروع الفقه التي اختلط فيها الاجتماعي والعرفي بالديني، وحُمل النص فيه ما لم يحمله انتصارا للعادات والتقاليد، وكان، رحمه الله، يرى أن غطاء الرأس لا يدخل في مفهوم الحجاب الذي تشير إليه الآية الكريمة: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن .. الآية" إذ أن المقصود هو تغطية الجيوب، أما الرأس فالآية لم تذكرها، والخمار لغة ليس غطاء الرأس، فحسب، إنما هو الغطاء، أي غطاء يقال له خمار، أما غطاء الرأس فقد كان عادة عند نساء العرب منذ الجاهلية، لا علاقة لها بالإسلام، إنما بالبيئة الحارة التي تفرض على الجميع، رجالا ونساء، غطاء الرأس والقفا للاحتماء من حرارة الشمس الحارقة!
لم يكتب الشيخ العلواني هذه الآراء، ليس خوفا من المجتمع، فقد واجه في مساحات أخطر وأعمق بكثير، لكنه كان يرى أن منظومة المعرفة الإسلامية بأكملها تحتاج إلى إعادة بناء وفقا للقرآن الكريم، أولا وثانيا وثالثا، قبل الالتفات إلى أي شيء آخر، وحين نخوض "معركة المنهج" ونكسبها سوف تحل هذه الفرعيات من تلقاء نفسها، ولذلك لم يكن يرى في الحجاب معركة تستحق العناء!
قرأت بعد ذلك عشرات الكتب التي تحفر في التراث التفسيري والفقهي وتفند الأدلة من كتاب الله وَمِمَّا روي عن النبي الأكرم لتثبت ما ذهب إليه العلواني، ورغم جدية هذه الكتب والدراسات وتنوع مداخلها، وتنوع تخصصات أصحابها من الشريعة إلى الدراسات الإسلامية مرورا باللغة العربية وآدابها وحتى العلوم الإنسانية المختلفة، إلا أن شيئا منها لم يصل إلى الناس، ولم يؤثر فيهم بقدر تأثير درس لعمرو خالد أو مصطفى حسني أو أي فضائي بلحية!
في تصوري أن الحجاب تجاوز كوّنه "رأياً" فقهياً سائداً، أو غالباً، بحكم التقليد والتعلق بالقرون الأولى حتى في ما هو غير تشريعي، لقد تحول الحجاب إلى "رمز هوياتي" تحاول المسلمات أن يتمايزن به عن فتيات الحضارة المنتصرة التي توشك أن تبتلعهن، كما أنه تحول إلى رمز "سياسي" حين قرر بعض المسلمين جر الإسلام إلى حلبة التنافس على السلطة السياسية واستخدامه كظهير أيدولوجي وتوظيف دوره في الهداية والتقويم للحصول على المزيد من التأييد الجماهيري وأصوات الناخبين، هنا يبدو الحجاب ك"فاصل" بين العفيفات الفاضلات اللواتي يردن أن يحكمن، أو بالأحرى يحكم رجالهن، بشرع الله، في مواجهة منافسين سياسيين جرى نقلهم إلى خانة منافسي الدين، لا الإسلاميين، ثم أعداء الدين، لا الأحزاب الدينية، وأخيرا أعداء الله، أو بتعبير بنت خيرت الشاطر:"الهالكين"، من هنا صار مجرد الاقتراب من قدسية الحجاب أو محاولة مناقشتها جريمة تماثل الخيانة والانحياز لمعسكر الأعداء!
في بدايات القرن الماضي كان قاسم أمين يحلم في "تحرير المرأة"، بامرأة مسلمة "موجودة"، مجرد وجودها كما خلقها الله كان حلماً، واستعان "أمين" بالإمام محمد عبده ليثبت حق المرأة في ظهور الوجه والكفين عبر الاستدلال بآراء القدماء، ورغم ذلك لاقى ما لاقى من عنت وسخط ورفض وغضب وصل إلى حد التهجم على بيته، ولم يلق الكتاب - وقتها - نجاحا رغم كل ما أحدثه من نقاش وجدل، بعد نصف قرن من "تحرير المرأة" أصدر ناصر الدين الألباني، شيخ السلفية الوهابية في زمانه، وأحد أبرز أئمتها، كتابه: "جلباب المرأة المسلمة" لينتصر لرأي قاسم أمين ب 8أدلة شرعية زادها في الطبعات التالية إلى 13دليلا "مفحما" - على حد قوله -
لم يسلم الألباني بدوره، واتُهم بالإلحاد في آيات الله، من سلفيين مثله، لكن الزمن كان قد تغير، فرض الكتاب نفسه، قبل أن يتجاوزه الواقع، وربما بعده، ونجح، يحتاج التغيير إلى وقت، تحتاج المجتمعات إلى جهد طويل وصبر ووجع قلب ومثابرة لزحزحتها عن تصلبها وتشنجها وحراستها لتخلفها، يبدو الأمر كما لو أنه صخرة سيزيف، لكننا سنصل، نحن أو من يلينا، سنصل، جهود من يحاولون في البديهيات هي واجب الوقت، للأسف، والمحاولة لا اليأس، والصبر لا الغضب، ضمانات تاريخية للنجاح، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها