ما سبب غضبة دول راس (روسيا وإيران وسوريا) من الخوذ البيضاء؟
في غابر الزمان وسالف العصر والآوان، أي قبل نصف قرن، كان السوري الذي علت ذكرياته الغبار، يتصف بصفات الفرسان، يغيث الملهوف من غير جمعيات أو خوذات، حتى أن رئيس سوريا شكري القوتلي تنازل عنها لجمال عبد الناصر، والملهوف في اللغة هو المظلوم، الذي ينادي ويستغيث من أجل إنقاذه، ورفع الظلم عنه، واللَّهْفَانُ: المتَحسِّر، وَمِنْ أَمثالهم: إِلَى أُمّه يَلْهَف اللَّهْفَان. القانون الألماني يعاقب من يتقاعس عن نجدة أخيه الإنسان، فكيف لو كان يقصف ببراميل النار من حكومته "المنتخبة" الحكيمة.
تغير حال السوري وانقلب، ولم تعد الدار داراً، وَلا الجِيرَان جِيرَانَا، فواحدة من أهم واجبات "البوط العالي" في المهاجرين، كانت تدمير الأخلاق، عربية أو أعجمية، وتحويل الناس إلى مخبرين يتجسسون على بعضهم، أو الاكتفاء منهم بالصمت، والصمت من ذهب، ليس ألمع من الصمت ذهباً في هذه البلاد الشمّاء، يصب في جيب النظام، تشهد على ذلك لوحات الكوميديا الكثيرة، التي يبثها برهاناً على الديمقراطية، وقد بعثت الثورة شهامته من الموت، ورضي بعض السوريين بأضعف الإيمان، وهو إغاثة الملهوف تحت الأنقاض. وقد رحّب العالم بالخوذ البيض التي نشأت في سنة 2013، والخوذ نفسها ملهوفة، أو أوحى بذلك في نشرات الأخبار، أو في تصريحات الرؤساء، لكنه خذلهم، فلم يرَ الشعب له عزماً أو عوناً إلا من دعم مالي لبضع مئات من الخوذ البيض، فسورية تعوزها إغاثة دولية ؛ مادية ونفسية، لا إغاثة أفراد متطوعين. قد تحمي الخوذ من الرصاص، لكنها لا تقي من سقوط السقوف والعمارات. رضيت بعض دول الغرب بالخوذ البيض، تكفيراً عن الأيام الحمراء والسوداء القاتمة وبرهاناً وحيداً على إنسانيته المهدورة.
تُعرّف معاجم الشبكة العنكبوتية الخوذ البيض بأنها منظمة الدفاع المدني السوري، التي انبثقت من التنسيقيات، وتصفها بأنها تطوعية، وتعمل في مناطق المعارضة، من غير ولاء لجهة أو حزب. قدمت لها إحدى المنظمات الإغاثية العالمية الدعم، فموّلتها لدورة تدريب في تركيا سنة 2013، في مجال البحث تحت الأنقاض وقدمت بعض معدات الإغاثة.
عقدت المنظمة لقاءها السنوي العام الأول في أكتوبر 2014 ، فاجتمع المتطوعون من كافة أنحاء سوريا، واتفقوا على تشكيل منظمة واحدة، تحت رسالة مشتركة وقيادة وطنية، وفقاً للقانون الدولي الإنساني، كما هو معرّف في البروتوكول الأول من المادة 61 في اتفاقيات جنيف لعام 1949. وتلقّت التمويل من ميدي للإنقاذ وكيمونيكس، فهما شريكان منفذان لبرنامج التدريب والمعدات والمناصرة والإعلام، وبناء القدرات المدنية، وأيضاً من حكومات المملكة المتحدة وهولندا والدنمارك وألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
ونال فيلم الخوذ البيض جائزة أوسكار للأفلام الوثائقية، لكن دول "راس" غاضبة من بطولاتهم ووثائقهم البصرية، فوصفتهم بالدواعش، وبراهين التهمة هي نداء؛ الله أكبر، واللحى. الفرق بين الغرب وروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي أن روسيا لا تحب "الشو" مثل الغرب، ول"الشو" فوائد بصرية وعوائد وثائقية. ويبقى سبب الغضب هو نفس سبب الغضب من الأطباء الذين اعتقلوا أو قتلوا أو هربوا. النظام يريد المجتمع السوري حظيرة، من غير حماية، ويبتغي السوري مكشوف الرأس للقنص. عاري الجمجمة؛ للتحطيم، من غير كاميرا سوى عين النظام، عين الدجال العوراء.
ستكون أفلام الخوذ البيضاء والصور التي التقطوها مفيدة للغرب، قد تهيل التراب على فظائع إسرائيل، وقد تنسي فظائع الحرب العالمية أيضاً، فلم ير التاريخ دولة قتلت من شعبها كما فعلت دولة الدجال، وقد اتهم مفتي النظام وصحافيو إيران والنظام، وعلى رأسهم الصحافي الفلسطيني أبو كلبشة، الذي يحب مثابة الكاهن المتنبئ، الخوذ البيض بتصنيع أسلحة كيماوية، وصناعة أفلام تعجز عنها هوليود نفسها، وبالتجسس لصالح الغرب، وأنهم من الشيشان وأفغانستان. كريستيان بنيدكت، مدير إدارة الأزمات في منظمة العفو الدولية قال في الغارديان: "إن انزعاج نظام الأسد وروسيا من عمل الخوذ البيض بالإنقاذ والإسعاف والإطفاء، يعود إلى أن عمليات توثيق الجرائم التي يقومون بها من خلال الكاميرات المحمولة والمثبتة على خوذاتهم التي تحرجه". لقد كان الصحافي الغربي مشكلة، التوثيق السوري عادة لا قيمة له، بالخوذة البيضاء تحت المظلة الدولية صار له قيمة دولية، وتهمة التجسس تهمة تافهة، التجسس هو على الشعب السوري وعلى آلامه، والنظام يريد صورة الشعب السوري السعيد على السواحل يسبح ويرقص ويلهو، و"خلصت"، وهناك تهمة جديدة، فقد استغاثت الخوذ البيض من النار بالرمضاء، ولجأ إلى الجولان عبوراً إلى الأردن، إذاً فقد صار مدنساً، والجولان أرض سورية، وإن كانت تحت الاحتلال، ويرى الكثيرون أن الاحتلال أرحم من الطغيان الأسدي. تقاسمت ثلاث دول غربية، هي كندا وألمانيا وبريطانيا مسؤولية إجارتهم، وبهذا التهجير ستخلو بيوت سورية من سكانها، وتكسب دول ثلاث بضع مئات من الخبرات المدنية في الإغاثة، وأجيالاً جديدة من السوريين، الذين سيخدمون دول الغرب، تاركين الأرض السورية خالية من الخوذ البيض، فلا حياة في هذا القطر إلا للخوذ الرصاصية والجزم العسكرية.
جواب السؤال الأول المطروح في أول هذا المقال؛ هو أن الدفاع المدني يجب أن تتولاه جهات مختصة، سوريا دولة اختصاص في السياسة، الدولة تقاد من جهات مختصة، سوريا بلد مرفوع على الاختصاص، ومنصوب على الاختصاص، ومجرور على الاختصاص. على سبيل المثال: الله للعبادة والأسد للقيادة، التقوى الوطنية أحياناً تفسد الاختصاص، فتجعل العبادة للثاني وحده.
فإذا كانت محلات الفلافل لا تجاز، والأعراس والموالد لا تقام، إلا بعد فتوى من الجهات المختصة، وهي سلسلة طويلة، "جنزير"، فإن الدفاع المدني يعتبر حزباً، في ملّة النظام واعتقاده. السياسة ستكون محرّمة في سوريا الجديدة بعد الحرب، أما الموت، فيمكن أن يكون بلا إذن، ومشاعاً، وشاملاً؛ بالبراميل أو بالسارين، ومن غير دفن، وأحياناً من غير جثًة.
ختاماً: أنقذ اللاجئ السنغالي مامادو طفلاً فرنسياً، ففاز بجوائز كثيرة مثل الشهرة والبطولة والجنسية الفرنسية ممنوحة باليد من الرئيس الفرنسي، ووظيفة في الدفاع المدني، الخوذ البيض خسرت الجنسية السورية والعمل والديار وقبور الأهل، لأنها تنقذ أطفال سوريا من بطش رئيسها، وخسرت رئيسها العظيم الذي ليس كمثله.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها