إلى الآن، 3 روايات سعودية، على الأقل، لمقتل خاشقجي، لم نقتله ولا علاقة لنا بالأمر، جاء لتخليص معاملة مدنية وانصرف، قتلناه بالخطأ، مات في شجار بالأيدي بينه وبين موظفي السفارة، وأخيرا: لم نكن نقصد قتله، كنا نريد خطفه، و(إقناعه) بالرجوع للسعودية، لكنه مات بسبب مخالفة أحد أفراد التحقيق للتعليمات!
الرواية الأخيرة، نقلتها رويترز، عن مسؤول سعودي، رفض ذكر اسمه، فذكر الإسم اليوم، قد يستوجب التورط في الجريمة غدا، حتى لو كانت التصريحات بأوامر مباشرة من ولي العهد، فمن يدري، ماذا يخفي الغد من وسائل لتسليك الفاعل الحقيقي من مسؤوليته عن قتل خاشقجي!
مجمل الرواية: أن السعودية أرسلت 15 شخصا، لاختطاف جمال في بيت آمن بتركيا وإقناعه بالعودة للسعودية كجزء من خطة استخباراتية لإعادة المعارضين، إلا أن خاشقجي أثناء التحقيق هددهم بأن خطيبته تنتظره بالخارج وستتصل بمسؤول تركي رفيع المستوى حال غيابه، وسألهم هل تنوون اختطافي ليجيب أحدهم، مخالفا للتعليمات، نعم، نحن ننوي تخديرك وخطفك، فيصرخ جمال ويعلو صوته، فيلقي صوته في قلوب الخمسة عشر رجلا الرعب، ويضطر أحدهم لكتم صوته، وهو ما يؤدي إلى موته بالخطأ!
بعدها، تمكن الرعب تماما من فريق إعادة المعارضين إلى حضن الوطن، ويبدو أن مشاعرهم الرقيقة لم تحتمل صوت جمال العالي، فضلا عن جثته، فحاولوا التخلص من الجثة لإخفاء معالم الجريمة، غير المقصودة، لفوها في سجادة وسلموها لمتعاون محلي، ليتخلص منها، بمعرفته، وانتهى الأمر!
الرواية رقم 3، أو أربعة، أو ألف، تقول لنا من جديد أن نية القتل لم تكن مبيتة، وتنفي سبق الإصرار، دون أن تنفي سبق الترصد، ولكن لأسباب أخرى، غير القتل، كما أنها تنحو نحو الروايتين السابقتين في نفي أي مسؤولية عن ولي العهد السعودي أو أي صلة من قريب بالجريمة، فكل ما أمر به الرجل هو إقناع جمال بالعودة إلى الوطن، وما دون ذلك فهو اجتهاد شخصي من فريق الإقناع!
حسنا، لقد واجهت السعودية بعد ساعات من اختفاء جمال داخل السفارة اتهاما واضحا بالقتل تردد صداه في العالم بأسره، فلماذا ظلت الرواية الرسمية طوال أسبوعين هي النفي والإنكار قبل أن تعترف السعودية بأنه مات في شجار ثم هم الآن بعد رفض ترامب لرواية الشجار يقدمون رواية جديدة تفيد موته أثناء التحقيق، لماذا لم تظهر رواية واحدة متماسكة منذ اليوم الأول، أو على أقل تقدير لماذا لم تصرح السعودية بأنها ستحقق في الأمر مع فريقها ثم تخبر العالم بحقيقة ما حدث، ولماذا لم تظهر رواية فريق التحقيق والخطف والإقناع والمتعاون المحلي إلا الآن رغم كونه فريقا يؤدي مهاما بمعرفة الدولة وولي العهد وجهاز الاستخبارات؟
وهل يعقل أن ترسل المملكة كل هذا العدد لإقناع رجل واحد، وإذا كان الهدف هو الإقناع، أو التفاوض، أو حتى الخطف في مكان آمن، ألم يكن كافيا إرسال رجلين أو ثلاثة على الأكثر للتعامل مع رجل واحد على مشارف الستين؟ ولماذا يضم الفريق خبيرا في الطب الشرعي، ما دور الطب الشرعي في تشريح الخطف أو تخييط الإقناع، أو حتى القتل بالخطأ؟
لماذا تتحرك السعودية بكل هذا الارتباك وتفشل في إخراج قصة واحدة منطقية، وما أكثر الكذب الممنطق، لإقناع الرأي العام بانعدام مسؤولية ولي العهد عن جريمة السفارة؟
هل من المعقول أن فريقا من خمسة عشر رجلا لا يضم واحدا قادرا على التصرف بمسؤولية، بعد تدخل ملك الموت، غير المتفق عليه، وخطفه لروح خاشقجي؟ الجميع أخطأوا؟، الجميع تركوا أحدهم يخنق خاشقجي دون أن يتدخلوا لمنعه؟، الجميع أصابهم الرعب؟، الجميع وافقوا على لف الجثة في سجادة والتخلص منها؟، الجميع تصرفوا بمنطق العصابات لا رجال الدولة؟، الجميع نسوا أنهم فريق احترافي تشرف عليه الاستخبارات السعودية وبدوا كما لو أنهم فريق المنتخب السعودي بإشراف تركي آل الشيخ؟.. هل هذا معقول؟
تبدو الرواية أكثر سذاجة من سابقتها، التي لم تعجب العم ترامب، وتستحق حبكتها معاقبة صاحبها بعقاب القاتل، واستبعاده نهائيا من فرق تسليك المجاري السعودية لاستخلاص المسؤول الحقيقي وتغطيس آخرين، إلا أن سؤالا أكثر أهمية يطرح نفسه ليجمع في حساب جملة الخسائر الأخلاقية: أين تركيا؟ أين التسجيلات التي تثبت قتل خاشقجي داخل السفارة؟ أين الأدلة التي ستظهر في الوقت المناسب، ومتى يحين هذا الوقت المناسب؟ لماذا يتركنا أصحاب الأرض والجمهور للفريق السعودي يعبث بنا كيف يشاء، ويخطىء ألف مرة أخطاء دفاعية "قاتلة"، وكفيلة باختراق دفاعاته والوصول إلى مرماه والتسديد بسهولة وحسم المباراة نهائيا؟ لماذا يتركوننا لاحتمالات الوقت الضائع وضربات الترجيح، أم أن طبيعة المباراة تسمح بانتهائها بالتعادل من دون أهداف؟
أتصور أن الطرف الأكثر جدية حتى الآن في تقصي الحقيقة هم السعوديون أنفسهم، فقد أثبتت رواياتهم المتناقضة، بعبثيتها وركاكتها، كل ما أرادوا نفيه، وأشارت بأصابع الاتهام والإدانة إلى الفاعل الحقيقي من حيث أرادت أن تقطعها بمنشار الإخفاء، ولو أننا أمام حالة تقاض حقيقية، وتحقيق جاد، وأطراف ينشدون العدالة لا صفقات السلاح وقيمة الليرة أمام الدولار لكان للقضية شأن آخر، لكنه النفط!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها