أثار إعلان رئيس إقليم كردستان العراق إجراء استفتاء شعبي يوم 25 أيلول القادم حول مصير الإقليم أسئلة وردود أفعال متباينة بين مستنكر للإعلان على خلفية عدم أحقية الكرد بدولة خاصة، وبين مستغرب في ضوء قيام نظام اتحادي في العراق للكرد فيه إقليم خاص يتمتع بصلاحيات واسعة سياسية(رئيس وحكومة وبرلمان وعلاقات دبلوماسية) واقتصادية (موازنة سنوية وتجارة خارجية) وعسكرية(جيش وأجهزة أمنية)، ناهيك عن سيطرته على احتياطي نفطي ضخم، حقق فيه الكرد جزءا كبيرا من تطلعاتهم القومية، وبين من اعتبر الخطوة مناورة سياسية هدفها الضغط على الحكومة المركزية لتنفيذ المادة 140 من الدستور الاتحادي المتعلقة بإجراء استفتاء حول المناطق المتنازع عليها، كركوك بشكل خاص، وبين رافض لقيام دولة كردية لاعتبارات أمنية تتعلق باستقرار العراق والإقليم.
لاشك أن للخطوة ارتدادات ثورية في منطقة هامة على عدة صعد: جيواستراتيجية وجيوسياسية وجيو اقتصادية، من جهة، وتعاني من هشاشة سياسية واختلالات اقتصادية واجتماعية كبيرة وعميقة من جهة ثانية، وترتبط أنظمتها بحبل سري مع دول المتروبول من جهة ثالثة، ما جعلها ساحة لتنافس وصراع إقليمي ودولي وعرضة لحروب وهزات متتالية أفقدت "دولها" استقرارها ودفعت أنظمتها إلى الاستسلام لعلاقات تبعية سياسية وعسكرية واقتصادية طلبا للحماية، ما رتب تمكين الدول الحامية من الهيمنة على الدورة الاقتصادية وتدوير عوائدها المالية نحو خزائنها، وحرمان المواطنين من ثمار عائدات إنتاج وطنهم ومن ابسط حقوقهم السياسية والاقتصادية وخضوعهم لقمع منهجي من أجل تنميط سلوكهم وضبط ردود أفعالهم.
جاءت الخطوة في سياق نضال كردي طويل ومرير، وقد جعلتها التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة، التي هزت مرتكزات الأنظمة وضربت شرعية السلطات الحاكمة (الحرب العراقية الإيرانية، احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية، فرض منطقة حظر طيران شمال خط عرض 32، احتلال العراق عام 2003، إقامة النظام الاتحادي في العراق، ثورات الربيع العربي) ممكنة.
غير أن الأنظمة التي سبق وتنازلت عن استقلال وسيادة "دولها" للخارج ثمنا لاستمرارها والمحافظة على سلطاتها الحاكمة، والتي سحقت تطلعات شعوبها للحرية والكرامة في نظام يحقق العدالة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والجنس، لم تنظر إلى التطورات السياسية والعسكرية والتحركات الشعبية، التي شبت عن الطوق وكسرت جدار الخوف، بعين الرضا، ولم تقبل بنتائجها وتبعاتها. ما يستدعي تفاهم وتعاون قوى التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي ورص صفوفها من أجل تحقيق مطالبها في الحرية والكرامة، وفي متنها حقوق القوميات والاثنيات، في دول حقيقية وأنظمة شرعية تفرزها إرادة شعبية حرة. وهذا يفرض إعادة نظر في رؤى وتصورات دعاة التغيير وخططهم من أجل إشاعة روح الوفاق والتعاون بعيدا عن المغالاة والتعسف في تحديد الحقوق والمطالب، فالعرب، والترك والفرس أيضا، مطالبون في تعاطيهم مع القضية الكردية، وقضايا القوميات والاثنيات الأخرى، بالانحياز إلى تصور منطقي وعملي أساسه الإقرار بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، عملا بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة من جهة ومبدأ المعاملة بالمثل، حيث يتمسك العرب بأرضهم ودولهم وينادون بدولة عربية واحدة، وهذا حقهم، وعليه يجب الإقرار بأنه حق للكرد، والقوميات الأخرى، كذلك، من جهة ثانية، والجلوس، بعد التسليم بوجود الشعب الكردي وحقه المشروع في تقرير المصير، إلى طاولة التفاوض للاتفاق على حل قائم على الرضا والقبول المتبادل.
والكرد، أفرادا وأحزابا، مطالبون بتكييف تصوراتهم ومطالبهم وفق حقائق الجغرافيا البشرية الراهنة وإعادة النظر في خرائط كردستان الكبرى التي يتداولونها، والتي تشتمل على كل المناطق التي سكنها الكرد يوما ما، حتى التي لم يعمروا فيها طويلا، عبر تاريخهم الطويل، متجاهلين ما أحدثه التاريخ من تحولات وتغيرات، وما عرفته الدولة الإسلامية، التي كانوا جزءا منها، من تبدلات في الحدود والولاءات وتنقل شعوبها الحر داخل حدودها طوال عمرها المديد، وان العودة إلى خرائط ذلك الماضي البعيد مستحيلة(تصوروا، ولو من باب التأمل والمران الأكاديمي، العودة إلى خرائط العالم قبل مائة عام وما يمكن أن يترتب عليها من تغييرات وما تستدعيه من صراعات وحروب) وتعني المطالبة بتلك الأراضي الانخراط في حروب لا تنتهي، والانحياز إلى حل سلمي وتوافقي وعدم الانجرار وراء مستدعيات اللحظة السياسية الراهنة، التي تحكمها عوامل آنية، والتمسك بالمطالب بحدها الأعلى في ضوء معطيات اللحظة التي تقول إن الريح الإقليمية والدولية مواتية وتسمح بالمطالبة بحدها الأعلى، وفرض أمر واقع في ظل هذه المعطيات، لان اتفاقات الإرادة الناقصة، وفق تعبير الاستراتيجيين، التي لا تقوم على الرضا لا تعمر ولا تشكل أكثر من هدنة بين حربين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها