سعت موسكو إلى فرض تصورها للحل في سوريا على المجتمع الدولي ووضع الإدارة الأميركية الجديدة أمام الأمر الواقع. غير أنها فشلت في تحقيق هدفها في اجتماعات أستانة ما دفعها إلى تطوير إستراتيجيتها السياسية بتعزيزها بالتصدي للتحرك الأميركي شرق وجنوب سوريا والعمل على عرقلة خطة واشنطن للسيطرة على شرق الفرات(محافظات ديرالزور، الرقة، الحسكة) وعلى الشريط الحدودي من القنيطرة إلى معبر التنف مرورا بدرعا والسويداء، كمدخل لإجراء مفاوضات من موقع قوة.
نجحت واشنطن في الالتفاف على لعبة موسكو تمرير خطتها: انتزاع إقرار دولي باعتبار مسار أستانة مرجعية بديلة، أو أقله موازية لمسار جنيف، الأمر الذي يمكّنها من الإمساك بكل خيوط اللعبة بموافقة أممية. والإبقاء على نظام بشار الأسد في السلطة، عبر اجتماعات أستانة، وفرض نتائجها على الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وأجهضتها عبر عدم الانخراط فيها والإقرار بشرعيتها كمنصة للمفاوضات ورفضها تغطيتها بالموافقة على مشروع القرار الذي قدمته الأخيرة إلى مجلس الأمن لهذا الغرض، وتمسكها بمفاوضات جنيف كآلية دولية للتعاطي مع الملف السوري. ترافق التحرك السياسي والدبلوماسي الأميركي بتحرك عسكري على عدة مستويات، تعزيز قدرات قوات سوريا الديمقراطية في هجومها في محافظة الرقة، إشراف وزارة الدفاع (البنتاغون) على معركة طرد "داعش" من البادية السورية(ثلث مساحة سوريا، خزان النفط والغاز والفوسفات، وعقدة مواصلات بين سوريا والعراق وتركيا والأردن) والتقدم لتحرير البوكمال عبر تدريب وتسليح فصائل من الجيش السوري الحر بمشاركة بريطانية ونرويجية في قاعدة التنف، تنفيذ اغارات وانزالات جوية على مواقع لـ "داعش" لاستهداف قادة ميدانيين وشرعيين في ريف محافظة ديرالزور تسهيلا لمهمة فصائل الجيش السوري الحر في تحرير المحافظة.
ارتبط تحرك واشنطن بتوجهها لمحاصرة النفوذ الإيراني والميلشيات الموالية لها ومنعها من تحقيق حلمها بإنشاء ممر بري يجتاز الأراضي العراقية والسورية يربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط ولبنان وقاعدة بحرية على المتوسط من جهة وتكريس توازن عسكري يرجح كفتها على طاولة المفاوضات ويمنحها فرصة توزيع الحصص والهدايا والمكافئات من جهة ثانية.
أدركت موسكو دقة موقفها والآثار السلبية الكبيرة على نفوذها ودورها السياسي في الملف السوري في حال نجح التحرك الأميركي وفرضت واشنطن سيطرتها على هذه المناطق، فقد رأت في الانخراط العسكري الأميركي في قتال "داعش" في سوريا انتقاصا من هيمنتها السياسية وتفردها بمشهد القوة العسكرية على الأرض، فاستثمرت اتفاق خفض التصعيد في تحريك قوات للنظام السوري وميلشيات شيعية يقودها جنرالات من الحرس الثوري الإيراني تعززها طائرات روسية وفتحت جبهات قتال واسعة ضد "داعش" تمتد من ريف حلب الشرقي إلى بادية الشام مرورا بحماة وحمص على أمل تحقيق اختراق كبير وتحقيق مكاسب على الأرض تعيق، إن لم تمنع، واشنطن من فرض سيطرتها على المناطق التي حددتها. استدعى هذا التحرك إرسال قوات خاصة روسية إلى ريف محافظة السويداء لقطع الطريق على أية تحركات غربية تنطلق من الأردن إلى البادية السورية، كما رفع الأعلام الروسية على مواقع وقطعات عسكرية تابعة للنظام السوري في ريف السويداء لحمايتها من القصف الجوي الأميركي. نجح الدعم الروسي الإيراني لقوات النظام في ريف حلب الشرقي بطرد "داعش" من مدن وبلدات وقرى كثيرة وصولا إلى محاصرة بلدة مسكنة، ما سيسمح لها بالتقدم باتجاه مدينة الرقة من جنوبها الغربي وعدم تركها لقوات سوريا الديمقراطية التي تحاصر المدينة بدعم وتوجيه أميركي، كما حققت مكاسب في القلمون الشرقي، وحركت قوات إلى معبر التنف، لفتح طريق دمشق بغداد، وحشدت أخرى في "مثلث الموت" بين القنيطرة ودرعا ودمشق. بالإضافة إلى التحرك باتجاه بلدة السخنة تمهيدا للتقدم إلى مدينة ديرالزور، ونسقت مع قوات الحشد الشعبي التي سيطرت على الحدود العراقية السورية في منطقة القيروان والبعاج والقائم.
كل هذا من أجل تغيير توازن القوى والضغط على واشنطن للعودة إلى طاولة المفاوضات، بعدما شكّل غياب دورها الفاعل عن المؤتمرات السياسية حول سوريا، سواء في جنيف أو أستانة، العقبة الأكبر أمام تأمين الشرعية الدولية للوجود الروسي في سوريا.
لكن الجلوس حول طاولة التفاوض ليس بالأمر السهل في ظل التصورات المتعارضة، في الواقع هي أقرب للتناقض، فشروط واشنطن، وأولها إخراج إيران، التي وصفتها بالراعي الأول للإرهاب في المنطقة ووضعت ميليشياتها على قائمة الإرهاب مع "داعش" و "النصرة"، ورأس النظام السوري من المعادلة السورية المستقبلية، للجلوس على طاولة التفاوض تتيح لها فرض تصوراتها للحل، لان قبول روسيا دخول المفاوضات بالشروط الأميركية سيفقدها فرصة توظيف تحالفها مع طهران في حسابات توازن القوى لموازنة الثقل الأميركي وتحقيق أهدافها في سوريا. ناهيك عن انه سيؤكد ارتياب إيران بالتحركات الروسية الإقليمية والدولية(اتفاقها مع أنقرة وسعيها لعقد صفقة مع واشنطن ربما تتم على حساب المصالح الإيرانية)، ويدفعها إلى التحرك ميدانيا لعرقلة احتمال التفاهم الأميركي الروسي بدق أسافين بين الطرفين. ما يرجح تحول شرق سوريا إلى ساحة مواجهة عسكرية ستحدد نتائجها خريطة النفوذ وطبيعة الحل فيها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها