في ثنايا سلسلة طويلة من المواقف العقائدية الصارمة حول الشعب والأرض والمنطلق الإسلامي والحقوق والحق في تحرير الأرض، مررت قيادة حركة المقاومة الإسلامية(حماس) في وثيقة " المبادئ والسياسات العامة" التي أعلنتها في الدوحة يوم1/5/2017، موقفها الجديد في النقطتين الأبرز في تاريخها السياسي: التخلي عن الطابع الديني للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي(البند 16)، القبول بدولة فلسطينية على حدود 4 حزيران 1967(البند 20).
كانت حركة حماس في ميثاقها، أعلن يوم 18/8/1988، قد انطلقت من اعتبار فلسطين أرضا إسلامية يجب تحريرها. وقد خاضت صراعا سياسيا مع منظمة التحرير الفلسطينية على خلفية رفض المشروع الوطني الذي طرحته الأخيرة، رفضت الدخول في منظمة التحرير الفلسطينية وأفشلت المفاوضات مع ياسر عرفات التي رعاها حسن الترابي في السودان عام 1989 عبر التمسك بحصة 40 في المائة في اللجنة التنفيذية وفي موازنة المنظمة، ورفضت التسوية السياسية التي دخلت فيها المنظمة منذ مؤتمر مدريد عام 1991، قبل أن تدخل في احتكاكات سياسية وميدانية مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي انبثقت عن اتفاق أوسلو1993، وتطلق اتهامات كبيرة في وجهها بلغت حد التخوين، على خلفية ما اعتبرته تفريطا في الحق والأرض، وتعلن عن تمسكها بتحرير كل ارض فلسطين عبر خيار المقاومة، الخيار الوحيد، وتنفيذ للقاتل شارون خطة الانفصال من طرف واحد والانسحاب من قطاع غزة، بمباركة وتهليل دوليين، ومواصلة إقامة الجدار العنصري وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية استعدادا لتنفيذ خطة فصل مماثلة فيها، وصولا إلى فشل اتفاق مكة لتقاسم السلطة مع حركة فتح والسيطرة على قطاع غزة يوم 14/6/2007 بعد اقتتال دام مع قوات السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وتشكيل حكومة خاصة فيها (قال الدكتور محمود الزهار، القيادي في حماس، أنهم سيقيمون إمارة إسلامية نموذجية في القطاع).
اعتبرت حركة حماس، طوال هذه الفترة، أنها تحقق إنجازا، وإن تبدّل المزاج الشعبي الفلسطيني، والتفاف الفلسطينيين حول المقاومة خير دليل على صحة توجهها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار دور إسرائيل، بسبب رفضها تنفيذ بنود أتفاق اوسلو، في دفع الفلسطينيين إلى الانحياز إلى هذا الخيار، ما يعني أن اعتراضهم سببه فشل عملية التسوية ليس إلا، إلى درجة أن القيادي في حركة حماس الدكتور عبد العزيز الرنتيسي دعا الإسرائيليين مرات عدة إلى العودة من حيث أتوا.
في هذه اللحظة السياسية الدقيقة حققت حركة حماس فوزها الانتخابي وهذا وضعها في مركز السلطة التنفيذية وأمام الخيار المصيري: إما النزول إلى ارض الواقع بالعودة إلى المسار الذي لعبت دورا بارزا في إفشاله (اتفاق اوسلو) أو الدخول في مفاوضات سياسية جديدة، في ظل الآثار السلبية التي خلفها الفشل الفلسطيني بعامة وممارسات حركة حماس السياسية والعسكرية بخاصة، أو التمسك بالمنطلقات العقائدية وإدخال الوضع السياسي الفلسطيني في حالة جمود والانجرار إلى دورة عنف جديدة تقدم لإسرائيل غطاء لتنفيذ خططها في الفصل العنصري والحد من دور السلطة الوطنية الفلسطينية في المنطقة (أ) كما حددها اتفاق اوسلو.
أطلقت قيادة حماس، بعد فوزها في الانتخابات البلدية والبرلمانية عام 2006، عدة مواقف متعارضة من الإعلان عن احترام الاتفاقات والتصرف بواقعية والاستعداد للدخول في مفاوضات مع إسرائيل بشروط (هي ذات الشروط التي كانت السلطة الوطنية الفلسطينية تعمل من أجل تحقيقها: دولة فلسطينية في حدود العام 1967، وقف الاستيطان، الإفراج عن الأسرى ... الخ) إلى التمييز بين الاعتراف الواقعي بإسرائيل والاعتراف بشرعيتها، مرورا بإعلانها التمسك بسلاحها وبتحرير كل فلسطين. وهذا أثار أسئلة حول مبررات قبول حركة حماس التفاوض مع إسرائيل في ظل المعطيات السائدة وفي ظل انعدام فرص التوصل إلى اتفاق أفضل من اتفاق أوسلو. هل تريد اتفاق أوسلو خاص بها، بعد أن قاومت اتفاق أوسلو حركة فتح وأضاعت على الشعب الفلسطيني سنوات ودماء وتسببت بدمار كبير(؟!)، خاصة وأنها لا تمتلك أية أوراق سوى ورقة واحدة: ارتباك السلطة الوطنية الفلسطينية وفشل حكومة حركة فتح في تحقيق تقدم في العملية السياسية، وإنها بهذا الموقف تعبر عن استعدادها للحلول محلها في التفاوض دون أن يكون لديها أوراق تساعدها في تحقيق تقدم وانجاز تسوية تقود إلى إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في حدود العام1967. خاصة وهي تعلن التمسك بسلاح المقاومة والحديث عن تحرير كل فلسطين ما يلغي احتمال انطلاق مفاوضات بين الطرفين ويحرر إسرائيل من الالتزامات التي فرضتها خطة خارطة الطريق ويفتح الطريق أمام تنفيذ الخيار العزيز على قلب قادتها: الانفصال من طرف واحد في الضفة الغربية ووضع الحل الإسرائيلي موضع التنفيذ دون الخشية من انتقاد المجتمع الدولي.
يقود التدقيق في مواقف حماس إلى استنتاج منطقي وحيد: خطأ السياسة التي اعتمدتها حركة حماس طوال السنوات الماضية والتي قادت إلى إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية في مواجهة التعنت الإسرائيلي، حيث كان واقع الحال يستدعي المشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية والمساهمة في إقرار برنامج وطني موحد، وتخليص المنظمة من مرضها المزمن: المحاصة في المواقع القيادية والموازنة المالية، وتحويلها إلى جبهة حقيقية ترتكز إلى إستراتيجية واحدة، والدخول في جسم السلطة السياسي عبر المشاركة في الحكومة والمساهمة في تعزيز أوراق المفاوض الفلسطيني وتحسّين فرص الحصول على اتفاقية أفضل، لا أن تلعب، لحسابات حزبية ضيقة، ضد حكومة حركة فتح وتساهم في فشلها السياسي وما ترتب عليه من خصم من أوراق القوة الفلسطينية وتضييع فرصة تحقيق بعض المطالب الوطنية.
لم تراجع قيادة حماس موقفها وانعكاساته السلبية على القضية الفلسطينية ونضال الفلسطينيين من أجل حقوقهم الوطنية بل ذهبت بعيدا في الشقاق مع حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية بالالتقاء بالإسرائيليين لمناقشة فرص تسوية معهم، كاسرة محرماتها السابقة، فقد عكست ما عرف بوثيقة أحمد يوسف - المستشار السياسي لرئيس وزراء حكومة حماس في غزة إسماعيل هنية- وعنوانها "اقتراحات لخلق ظروف مناسبة لإنهاء الصراع"، التي وزع هنية نسخا عنها على القادة العرب وتسربت إلى الإعلام عام 2006، التي انطوت على تصور للحل يقوم على حل مرحلي وهدنة طويلة (الحديث أشار إلى هدنة من عشر إلى خمسين سنة) تنتهي بقيام دولة فلسطينية على حدود عام1967 وبالاعتراف بـإسرائيل، استعداد الحركة للذهاب إلى حدود المساس بالحقوق الوطنية من أجل الاحتفاظ بالسلطة.
لم تتوقف حركة حماس عند وثيقة احمد يوسف بل تقدمت خطوة أخرى لا تقل خطورة عنها تمثلت بدعوة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في حديثه لصحيفة كوريري ديلاسييرا الإيطالية (20/12/2006) الأوروبيين، وعواصم القرار في العالم الغربي، إلى التوقف عن المراهنة على الرئيس محمود عباس للوصول إلى تسوية للصراع مع إسرائيل فـ "الرئيس عباس، كما قال، لا يملك التأثير في عملية السلام. ألم تدركوا بعد أنه لا يؤثر في أي شيء. عندما كان الرقم الثاني بعد عرفات كان لا شيء. ولا شيء أيضاً عندما كان رئيساً للوزراء في عام 2003. ولماذا يجب أن يُدعم من أوروبا الآن. وتذكروا أن الطريق الوحيد للسلام يمر عبر حماس".
أعاد خالد مشعل في حديثه المشار إليه عرض هدنة مع إسرائيل مدتها عشر سنوات، على أن يتم خلال هذه المدة تشكيل دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 67. وقال عن القضايا الأخرى، كقضية اللاجئين، "سيكون الأمر عائدا للأجيال القادمة اتخاذ القرار حول المستقبل" ملمحا في الوقت نفسه إلى استعداد الحركة للاعتراف بإسرائيل بعد قيام الدولة الفلسطينية. واعتراف (مشعل) في حديثه لوكالة “رويترز” بوجود إسرائيل كأمر واقع، مجددا التوضيح أن الاعتراف بها من قبل حركة حماس مؤجل إلى ما بعد قيام الدولة الفلسطينية. وكانت خطوتها الأخيرة تغيير تحالفها الإقليمي بالقطع مع إيران والنظام السوري في رسالة غزل مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
لقد سعت قيادة حركة حماس في مواقفها السابقة ووثيقتها الجديدة، وعلى خلفية الانجذاب للسلطة، باعتبارها فرس الرهان في تحقيق مشروعها السياسي في ضوء المقولة التي يرددها الإسلاميون "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، إلى تأكيد توجهها لاسترضاء الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة عبر تكيفها مع مطالب الرباعية واستعدادها للانخراط في مفاوضات مع إسرائيل دون اعتبار لتبعات ذلك على الحقوق الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها