فُتح الملف الكوري بإعلان النظام الكوري عن إجراء تجربة نووية وتجارب صواريخ بالستية تطلق من البر، في لحظة سياسية دقيقة، فالإدارة الأميركية بدأت للتو تدشين فترتها الأولى بتقديم "فرشة" عن مواقفها وتصوراتها حول الملفات المحلية والإقليمية والدولية، وكذلك عن تطلعاتها إلى ادوار محددة لحلفائها في الغرب والعالم، إعلان أثار قلق وفزع دول حليفة للولايات المتحدة ما استدعى تحركا أميركيا سياسيا وعسكريا في منطقة ترفض دولها، الصديقة والمنافسة على السواء، استخدام القوة في معالجة ملفاتها.
عبّرت واشنطن عن رفضها للاستفزاز الكوري على مستويين سياسي وعسكري. ورد الموقف السياسي على لسان نائب الرئيس مايك بنس خلال تفقده للقوات الأميركية المرابطة في كوريا الجنوبية بجوار الحدود المنزوعة السلاح مع كوريا الشمالية حيث قال:"أن الولايات المتحدة لن تتسامح فيما يتعلق بتلك التجارب"، وإعلانه عن التخلي عن "سياسة الصبر الاستراتيجي" التي اعتمدتها الإدارة السابقة، وتأكيده أن هذا البلد يشكل "التهديد الأخطر على السلام والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي"، وعلى لسان وزير الخارجية ريكس تيلرسون خلال زيارته لدول في آسيا بتحذيره من "أن الولايات المتحدة قد تبحث شن ضربة استباقية على كوريا الشمالية إذا لم توقف برنامجها النووي". وتجسد الموقف العسكري بتسريع عملية نشر شبكة صواريخ "ثاد" المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية، وإرسال مجموعة هجومية بحرية فيها حاملة طائرات "يو إس إس كارل فينسون"التابعة للأسطول الأمريكي الثالث إلى المياه الكورية، وإعلانها أنها سترسل حاملتي الطائرات "رونالد ريغان" و "نيميتز" إلى بحر اليابان في الأسابيع القادمة، وتهديد الرئيس الأميركي خلال الأسابيع الأخيرة، في تغريدات له على تويتر باتخاذ إجراءات أحادية ضد كوريا الشمالية، وتوعد نائب الرئيس بـ "رد ساحق وفعال" على أي هجوم قد تشنه كوريا الشمالية. وذلك لتأكيد جديتها وعزمها على التحرك المباشر وتعزيز ضغطها على كوريا الشمالية والصين في آن.
ردت كوريا الشمالية على التهديدات الأميركية بتهديدات مضادة مع تصعيد لهجتها حيث أعلن نائب وزير الخارجية أنها ستُجري تجارب كل يوم، وكل أسبوع، وكل شهر، وكل سنة، كما وجهت تهديدات مباشرة بتدمير حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون"، وبضرب استراليا بالأسلحة النووية.
عكست عمليات استعراض العضلات والتهديدات المتبادلة خطورة الموقف، وقد زادت طبيعة الرجلين القابعين على سدة الرئاسة في البلدين من توجس قادة العالم من تطورات مفاجئة، حيث عكست تصرفاتهما ميلا إلى التهور واستعدادا للذهاب إلى الحرب والانخراط في مغامرات غير محسوبة العواقب، تجلى ذلك في إطلاق الرئيس الأميركي أيدي البنتاغون في التصرف في الحرب دون اعتداد بالمدنيين الذين سيسقطون نتيجة للهجمات الأميركية، كانت إدارة الرئيس السابق قد قيدتهما بضمان سلامة المدنيين، بينما اختار الرئيس الكوري لتجربة صواريخه البالستية موقعا قريبا من اليابان وكوريا الجنوبية، وتوقيتا لافتا لتلك التجارب: عشية لقاء بالغ الحساسية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ، وإقامته استعراضا عسكريا ضخما يوم 15 الجاري، في الذكرى 105 لميلاد مؤسس الدولة، جَدّهِ كيم ايل سونغ، وأجرائه اختبارا صاروخيا يوم 16 الجاري في موقع سينبو على الساحل الشرقي، وإعلانه انه سيُجري استعراضا عسكريا ثانيا يوم 25 الجاري في الذكرى الـ 85 لتأسيس الجيش الكوري، وهذه ذكرى مهمة تأتي في ختام تدريبات عسكرية ضخمة نُفذت خلال الشتاء، مع توقع إجراء تجربة صاروخية جديدة في هذه المناسبة.
تحركت واشنطن على محورين متوازيين، أول تنسيق خطواتها مع حلفائها في المحيط الهادي، حيث قام نائب الرئيس مايك بنس بزيارة سنغافورة وكوريا الجنوبية وسيتوجه إلى اليابان واستراليا واندونيسيا، وستعقد يوم 25 الجاري اجتماعا ثلاثيا على مستوى الخبراء مع كوريا الجنوبية واليابان لمناقشة "خطط مواجهة أي استفزازات أخرى من كوريا الشمالية، ولزيادة الضغط عليها، وضمان الدور البنّاء الذي تؤديه الصين في تسوية ملفها النووي". وثاني مع الصين عبر عملية ترهيب وترغيب حيث سربت معلومات تتعهد فيها بمعاقبة مجموعة من الشركات الصينية التي تيسر لكوريا الشمالية عدم الالتزام بعقوبات الأمم المتحدة،، يشار هنا بشكل خاص إلى المصارف والبنوك التي تساعد شركات الواجهة الكورية في تسهيل نشاطها التجاري الخارجي، وإطلاق الرئيس الأميركي وعدا بمراعاة المصالح الصينية في التجارة مع الولايات المتحدة إذا تعاونت الصين في ملف كوريا الشمالية.
غير أن الاعتماد على الصين، التي تريد حلا سياسيا للملف الكوري، ليس مضمون النتائج لاعتبارات تتعلق بكوريا الشمالية وبالصين معا، فقيادة كوريا قد رسخت أقدامها من خلال استعراض القوة العسكرية، وحصلت على تنازلات وامتيازات فعلية من جيرانها من خلال امتلاك وسائل ردع نووية محتملة، كما أنها ترى في أسلحتها النووية "بوليصة التأمين الوحيدة على الحياة". وهذا دفعها في عقد تسعينيات القرن الماضي إلى مواصلة العمل على برنامجها النووي، رغم كلفته المادية الضخمة، وتجاهل المجاعة التي حصدت أرواح 10 في المائة من السكان. في حين ترى بكين في كوريا الشمالية فرصة لتعزيز دورها الإقليمي من خلال لعب دور الضامن للتوازن من جهة، ولقدراتها النووية دور ايجابي في التصدي لمحاولات الاحتواء الأميركية من جهة ثانية، ولبقاء نظامها الحالي مهمة حيوية: إبعاد القوات الأميركية المنتشرة في كوريا الجنوبية عن حدودها من جهة ثالثة.
ستبقى العيون شاخصة إلى واشنطن وبيونغ يانغ ترقب التطورات على أمل احتواء الموقف والاتفاق على حل سياسي يرضي أطراف النزاع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها