اخطأت “الجامعة الاميركية في بيروت” بقبولها تسوية مع السلطات الاميركية سددت بموجبها مبلغ 700 الف دولار كغرامة على سماحها بمشاركة صحافيين من “تلفزيون المنار” و”اذاعة النور”، التابعين لـ “حزب الله” اللبناني، في دورة تدريبية قدمتها الجامعة للصحافيين، وكان على ادارتها الانخراط في معركة قضائية في وجه الحكومة الاميركية، حتى لو وصلت الأمور الى المحكمة الفدرالية العليا.
وخطأ الجامعة يطعن اولا في علّتها وسبب وجودها، فالارسالية البروتستانتيية التي أسست الجامعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حددت اهدافها بنشر العلم بين الشعوب التي كانت تراها متأخرة، او اعانة البرابرة على اللحاق بركب الحضارة، حسب التفكير العنصري الذي كان سائدا في ذاك الزمن. هذا يعني ان قيام الجامعة الاميركية بتدريب صحافيين يعملون في مؤسسات تابعة لـ “حزب الله” هو فعليا اخراجهم من دائرتهم وتعريضهم للافكار الليبرالية التي تقدمها الجامعة.
ثم ان الجامعة الاميركية لم تقدم اية مساعدة، مادية او معنوية، لتنظيم “حزب الله”، الذي تصنفه واشنطن ارهابيا، فصحافيو الحزب سددوا ثمن الدورة التدريبية التي شاركوا فيها. كذلك على الحكومة الاميركية اثبات ان صحافيي الحزب مدرجون على لائحة الارهابيين الاميركية، اذ لا يكفي العمل في مؤسسة تابعة لتنظيم ارهابي حتى يصبح العامل فيها ارهابياً حكماً، حسب القانون الاميركي.
ثم انه ان كانت الحكومة الاميركية تحاول منع انتساب اي طلاب مقربين من الحزب الى “الجامعة الاميركية في بيروت”، فستحتاج ادارة الجامعة الى جهاز استخباراتي كامل للتحري عن خلفية كل الطلاب المنتسبين اليها وامكانية عضويتهم في “حزب الله”، او في اية منظمة تعتبرها واشنطن ارهابية، وهو امر خارج عن قدرة هذه الجامعة او أية جامعة في العالم.
في الوقت الذي كانت تهرّج فيه الحكومة الاميركية وتبتز “الجامعة الاميركية في بيروت” لتكبيدها غرامة، كانت صحيفة الجامعة الطلابية الرسمية “أوتلوك” تعقد جلسة تدريبية للطلاب العاملين في اسرتها. الجلسة، حسبما جاء في مقالة في “أوتلوك” نفسها، كانت بمناسبة الذكرى المئوية على “وعد بلفور”، الذي وعد بموجبه البريطانيون اراضي فلسطين للحركة الصهيونية ابان الحرب العالمية الاولى. واشارت “أوتلوك” الى ان المحاضرين في جلستها التدريبية قدما درساً في “الاعلام المقاوم” وكيفية مشاركته في التصدي للكيان الصهيوني.
يبدو ان الخبر في “أوتلوك” لم يصل الاستخبارات الاميركية، التي يندر ان تقرأ العربية، والتي تتسلم غالبا التقارير من هذا النوع من اصدقاء اسرائيل، الذين يرصدون بدورهم كل شاردة وواردة في الاعلام العربي برمته.
اسرائيل ليست موضوع هذه المقالة. ما يهمنا هو انه بدلا من ان تقوم “الجامعة الاميركية في بيروت” بدور نشر المعرفة المبنية على مبادئ عصر التنوير، وتقديم الرؤية الليبرالية، وتدريب طلابها على الانخراط في المنافسة في الاقتصاد العالمي، تسدد الجامعة غرامة على قيامها بدورها، وفي نفس الوقت تسمح لطلابها بالاستيحاء من تجربة “الاعلام المقاوم” و”الاقتصاد المقاوم” وسائر الترهات الفكرية المنبثقة عن نظرية “الحكومة الاسلامية”، التي اجتاحت ايران بعد ثورتها في العام 1979، والتي مازال القيمون عليها يحاولون تحويلها الى منظومة فكرية واقتصادية واجتماعية في منطقة الشرق الاوسط، على الرغم من تعثر النظرية في ايران نفسها.
مطلع العقد الماضي، قامت مجموعة من الاصدقاء من اطباء “الجامعة الاميركية في بيروت” باقامة عيادة تطوعية في مخيمي صبرا وشاتيلا لللاجئين الفلسطينيين. وللاعلان عن الخدمة الطبية، في زمن ما قبل الاعلام الاجتماعي، لجأ المتطوعون الى القناة المعتادة وقتذاك، اي الاعلان عبر المئذنة. على مدى اسبوع، كرر المُعلن عبر المئذنة الاعلان عن العيادة، ولكنه رفض التزام النص المكتوب، وأصر على اسقاط كلمة “اميركية” من اسم اطباء الجامعة. لم يعبأ الاطباء لموقف المُعلن، وتابعوا عملهم في المخيمين، في عمل لا يمكن وصفه على أنه أقل من “مقاومة”.
لطالما تصدرت “الجامعة الاميركية في بيروت” مشروع التنوير والنهضة في المنطقة، ووقف رؤساؤها في مؤتمر باريس للسلام وغيره يطالبون باستقلال العرب ووحدتهم. هي الجامعة نفسها التي قدمت “العروة الوثقى”، الجمعية الفكرية العروبية، والتي انتجت الحكيمين: “ابو ميساء” جورج حبش زعيم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ووديع حداد القائد العسكري الشهير. لم تسدد “الجامعة الاميركية في بيروت” غرامات على انتاجها فكرا عربيا نهضويا، ربما لأن ادارتها كانت واعية وطلابها طليعيين. اما اليوم، فتبدو ادارة الجامعة خجولة وطلابها كسالى يستوردون الفكر الضحل بدلا من ان يصنعوا الفكر المتنور.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها