ارتكبت الديموقراطية الاميركية الخطأ القاتل نفسه الذي أهلك قبلها ديموقراطيات اوروبا وأنتج حكومات نازية وفاشستية. الديموقراطية هي حكم الغالبية، لكن ماذا يحصل ان انفلتت الغالبية من عقالها وتوحشت ضد الاقلية؟ في العلوم السياسية، تسمى هذه الظاهرة "طغيان الاكثرية". لذا، ابتكر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة سلسلة من الوسائل للحد من حصر السلطة بأيدي اي مجموعة يمكنها ممارسة الطغيان ضد الاخرى. لكن حتى وسائل ضبط الطغيان، تنهار ان انفلت عقال الغالبية.
على مدى القرن الماضي، أقنعت أميركا نفسها والعالم ان الديموقراطية هي حل سحري، وان الغالبية دائما ما تختار مصلحتها والخيار الافضل. وراح المرشحون الاميركيون للرئاسة يتفننون في تقديم برامج ترشيحهم الاقتصادية والسياسية، ويحاولون تقديم انفسهم على انهم حكماء واصحاب ضمير.
لكن انتخاب الجمهوري دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة أظهر أن الديموقراطية الاميركية اما مزيفة منذ نشوئها، او انها ماتت حديثاً.
لم يكترث ناخبو ترامب لإخفائه بياناته الضريبية. لم يهتموا بكذبه الفاضح حول رؤيته المسلمين في نيوجيرسي يرقصون احتفالاً بهجمات 11 ايلول/سبتمبر 2001. لم يكترث مؤيدو ترامب لأن مرشحهم هدد وتوعد الصحافيين والسياسيين، الجمهوريين قبل الديموقراطيين. لم يكترث مؤيدو ترامب الى ان نسبة البطالة هي في ادنى مستوياتها وأن الاقتصاد يحقق نمواً ينفرد فيه بين كبرى دول العالم.
كل ما يهم مؤيدي ترامب هي ما يسميه الاميركيون "الحرب الثقافية"، وهي ليست ثقافية فعلياً، بل دينية وعرقية وطائفية ومذهبية. هذه الحرب لخصتها الخبيرة السياسية اليمينية العاملة في شبكة فوكس، آن كولتر، في تغريدة: "لو أن القانون يسمح فقط للأميركيين الذي تعود جذورهم الى أربعة أجداد في البلاد، بالاقتراع، لاكتسح ترامب الانتخابات". لا يهم كولتر أن ترامب نفسه أميركي من الجيل الثالث، وأنه لو تم العمل بقانونها، لترشح ترامب في انتخابات لا يمكنه التصويت فيها.
كولتر لا تهمها الدقة. جلّ ما تريده هو أن يتفوق البيض، وينتصروا، ويحكموا، ويثبّتوا التقاليد "الصهيو- مسيحية" المزعومة. هذا هو النداء نفسه الذي أسال لعاب العرب من غير المسلمين، الذي رموا ثقلهم خلف ترامب.
تعتقد غالبية البيض المسيحيين الاميركيين، أن غير البيض وغير المسيحيين من الأميركيين ينتزعون منها مجدها ووظائفها ونفوذها. لا يهم وضع الاقتصاد الاميركي المزدهر، أو أن ترامب لا يعرف الفارق بين حلب والموصل. كل ما يهم البيض المسيحيين الأميركيين هو اقتلاع الرئيس الأسود (الذي يعتقدونه مسلماً سراً) من البيت الابيض، وترحيل المسلمين، وإغلاق الباب في وجوه اللاجئين السوريين، وترحيل الصوماليين، وترحيل حتى المسيحيين من جذور أميركية لاتينية لأنهم من غير البيض.
ما يهم البيض الأميركيين هو تأكيد وصول رئيس جمهوري يعيّن قاضياً مسيحياً محافظاً في المقعد الشاغر في المحكمة الفدرالية العليا، حتى يتسنى لهذه المحكمة تثبيت "الوصايا العشر" على مداخل المحاكم الفدرالية، وإجبار كل طلاب المدارس الرسمية على تأدية الصلاة المسيحية صباحاً، وحظر قوانين المثليين، ومنح الكنائس اقتطاعات ضريبية.
ما يهم ترامب والأميركيين هو نفسه ما يهم تنظيمات مثل "القاعدة" و"الدولة الاسلامية"(داعش)، وهو الانخراط في حرب حضارات، حرب ثقافات، حرب دينية، وتحويل العالم الى بقع من العروق الصافية، يعيش البيض المسيحيون في بلاد، والمسلمون العرب في بلاد، والأعراق الأخرى كل في بلده، ويخوضون في سباق عسكري سياسي وديبلوماسي يكون فيه الفوز للأقوى، لا للأكثر انسانية.
لكن التاريخ، إن علّمنا، فهو علّمنا أن لا وجود لأمة ذات عرق واحد ومذهب واحد، بل أمم ومذاهب وآراء. ربما دخل ترامب البيت الابيض على ظهر موجة عارمة من التأييد الشعبي بين البيض الاميركيين. لكن الفوز في الانتخابات شيء، والحكم شيء آخر. وقريباً سيجد ترامب نفسه امام خيار من اثنين: إما أن يعدّل من مواقفه ويقترب من الوسط حتى يتمكن من الحكم، وهو ما سيضطره الى التراجع عن عدوانيته وعنصريته، وإما أن يتمسك بتطرّفه ويجد نفسه في مواجهة مع الوسطيين الجمهوريين البيض قبل أن يخوض في معارك مع الآخرين.
انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة ليس نهاية ديموقراطيتها، بل هو الخطوة الاولى في اتجاه النهاية. فإما أن يتابع ترامب انتصاراته بعنصريته، ويهزم الديموقراطية الاميركية، أو تعود الغالبية الى رشدها وتلفظه وتخرجه من البيت الأبيض.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها