بعد جنيف 2 ، وافتضاح دور روسيا المعطل لتطبيق وثيقة جنيف، التي اعتمدتها دول مجلس الامن الدائمة العضوية أساسا لحل سياسي يحقق مطالب الشعب السوري . وبعد أن تأكدت حتمية قيام أميركا برد على غريمها يوفر ضربا من غلبة ميدانية تحققها الثورة على النظام ، وتحول بينه وبين استغلال التوازن العسكري لخوض حرب لا نهاية لها ضد شعب كان يسميه شعب"ه"، كان من الضروري أن يقابل الائتلاف التطور الدولي المحتمل بخطوات استباقية، سواء على صعيد وضعه الذاتي وعلاقاته مع الداخل السوري ، ام على صعيد صلاته بالخارج العربي والإقليمي والدولي .
وكان 44 من اعضائه قد استقالوا منه ، في حين اعلن الاستاذ جورج صيره خروج المجلس الوطني من صفوفه احتجاجا على مشاركته في مؤتمر جنيف 2. يومها، انقسم اعضاء لجنة الائتلاف السياسية في موقفهم من الحدثين إلى فريقين : واحد دعا إلى تجاوز الانقسام بإعادة الطرفين إلى صفوف الائتلاف ، وآخر أراد إبقاء المستقيلين والمنشقين خارجه ، لاعتقاده أن عودتهم ستحول دون تمديد رئاسة الاستاذ الجربا لستة أشهر أخرى، بالنظر إلى الخصومة التاريخية بينه وبين الاستاذ الصباغ وممثلي المجلس الوطني ، واستحالة أن ينال بعودتهما إلى الائتلاف أغليية ثلثي الأصوات الضرورية للتمديد . في النهاية ، وبعد نقاشات حامية وصريحة ،قبل الأستاذ الجربا عودة الكتلتين ، وإن كان الصراع الذي دار حول الموضوع واللغط المتطاير بسببه في كل مكان ، قد جعلا العالم ، الذي كان قد قرر بالفعل إحداث نقلة في سياساته ، يؤمن أن الائتلاف ليس شريكا موحدا ويعتمد عليه ، وأنه غارق في مشكلات داخلية تعطله ، من تجلياتها عزل رئيس الأركان اللواء سليم ادريس ، الذي اعقب فشل جنيف مباشرة، ونقل الصراع السياسي من الائتلاف إلى المجال العسكري ، في واحدة من أخطر الخطوات غير المدروسة التي كان يمكن ان تواجهها الثورة .
أدى الانقلاب على اللواء ادريس إلى قطع صلات واشنطن العسكرية مع الأركان الجديدة ، التي عينها الاستاذ الجربا . فهل أخافت طريقة التعامل مع رئاسة اركان معتمدة دوليا البيت الأبيض ، وجعلته يخشى التورط في لا سيطرة لها عليها ، قد تجره إلى ما لا يريد ، لذلك قرر أن لا يقيم علاقات شراكة مع الائتلاف أو مؤسساته العسكرية ، وأن يتعامل مباشرة مع الأرض ، مع القوى المقاتلة التي يعرفها ويثق بها ، على أن يعالج كل مشكلة تعترضه هنا على حده ، وحسب منطقها الخاص ، وليس انطلاقا من أية شراكات مزعومة مع اي أحد ، كما قال باراك أوباما نفسه لوفد الائتلاف ، حين قابله في البيت الأبيض . هذا الابتعاد عن الائتلاف وعسكره ، انتجه اسلوب خاطيء في معالجة المشكلات ، انطلق من حسابات ضيقة وشخصية ، وعجز عن إدراك أهمية ما كان يجب القيام به من خطوات تشجع العالم على تطوير موقفه ردا على فشل جنيف ، مما ضيع سانحة فريدة قلما تتكرر .
واليوم ، والوضع العسكري يتطور في جنوب ووسط سوريا ، كما في مناطق من حلب ، لصالح الثورة ، بعد أن وضعت قيادة عسكرية من خارج الأركان على رأس وحدات مقاتلة تشكلت خلال نصف عام مضى ، يطرح رئيس الائتلاف الجديد الاستاذ هادي البحرة مشروع تأسيس "مجلس أمن وطني" ، دون تعريف دوره وموقعه من واقع الارض ، فإن كان يراد له الحلول محل القيادتين اللتين تشرفان منذ بعض الوقت على عمل الجيش الحر، كان من الأفضل الاستغناء عنه، بما أنه لن يتمكن من إنجاز أي عمل دون دعم الدول التي شكلتهما ، وسترفضه بالتأكيد كي لا يشوش عملهما الناجح . أما إذا اريد به التعاون معهما، فلا بد من انضوائه في هيكليتهما ، وبالتالي خضوعه لمهنيتهما واستراتيجيتهما القتالية . في هذه الحال ، يرجح أن لا يكون له أي مكان أو وظيفة في بنيتهما العسكرية ، أو في القيادة الميدانية التي تدير المعارك وتشرف على الوحدات المقاتلة الجديدة ، التي لم تتعرض بعد لأي تحد حقيقي من جيش السلطة ، ولم تواجه أي إرباك في إدارتها الذاتية، وتتنامى أكثر فأكثر وتوسع انتشارها ضمن مناطق عديدة ، وسيدخل قتالها في طور جديد خلال فترة غير بعيدة ، يقال انها ستشهد تحولا مفصليا في الصراع الدائر ضد النظام و"داعش" ، الأمر الذي يحتم الحرص على القيادة الجديدة ، ومنع تشويش أو إرباك خططها وانشطتها ، ولو باسم "مجلس أمن وطني" لن يكون له من الواقع غير اسمه ، خاصة إن قائده مدني لا يعرف شيئا عن علوم الحرب ، ونشأ بذلك نمطان من القيادة في المجال العسكري، أو تراجعت أوضاع الجيش الحر في المناطق التي يقودها ، بالتعاون مع قادة مدنيين مثله فشلوا إلى اليوم في تقديم بديل ناجح للعسكريين المنشقين ، ويعانون منذ عام من هزائم متلاحقة، بينما يحقق الاحتراف انتصارات متتالية بقيادة غرفتي العمليات في شمال سورية وجنوبها. أخيرا ، ثمة نقطة خطيرة هي أن قيام المجلس العتيد سيحدث ازداوجية في القيادة ستعوق بناء اية وحدات مقاتلة جديدة وستربك قيادتها. في النهاية ، إذا كان المجلس سيحذو حذو القيادة المهنية في تدريب وقيادة القوات ، لم لا تقتصر وظيفته على انتقاء من يجب تدريبهم وتسليحهم من أفراد الجيش الجديد ، واختيار الضباط الذين سيقودون وحداته ، على أن يشارك بعضهم في قيادة العمليات بما يمتلكونه من خبرة ومؤهلات مهنية .
قد يعطل تشكيل المجلس فرص إحراز الغلبة على النظام ، مثلما عطلت خلافات ما بعد جنيف فرص ملاقاة العالم في منتصف الطريق، وأجبرت دوله على رفض التعاون مع الائتلاف وممثليه بالأمس، وقد تجبرهم اليوم على رفض مجلسه، الذي قد يمليه فهم خاطيء للوطنية جوهره الارتجال !.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث