ليس بين التنظيمات المسلحة واحدة تضاهي في قدرتها على التخطيط والتنفيذ تنظيم " الدولة الإسلامية في العراق والشام "، داعش. فبينما تلهت بقية التنظيمات ، وعلى رأسها الجيش الحر ، بمعارك جزئية مفصولة عن أي هدف سياسي استراتيجي قابل للتحقيق العاجل، وخاضت معارك استنزفتها ضد آلاف الحواجز وداخل عشرات آلاف الأحياء والحارات والبلدات والقرى ، وعجزت عن إقامة بنية عسكرية وسياسية موحدة ودائمة في المناطق المحررة ، رأت " داعش" أن من يمسك بطرق الامداد يمسك بورقة يرتبط بها مصير جميع الأطراف المتصارعة ، لذلك سارعت إلى الإمساك بمعظم طرق إمداد الجيش الحر ، عدوها اللدود ، وبقية التنظيمات المسلحة ، بما في ذلك تلك التي تنافسها مذهبيا ، وركزت في كل مكان دخلته على مواجهة خصومها من الخلف، بعد قطع طرق إمدادهم وتموينهم ، والتحكم بقدرتهم على تلقي الطعام والذخيرة والسلاح . إلى هذا ، انتبهت "داعش "إلى أهمية الاستيلاء على مصادر الثروة الوطنية ، فسارعت إلى وضع يدها عليها وانتزاعها من الذين كانت في أيديهم ، وباعت ما استخرجته منها كي تحصل على موارد مالية كافية لتمويل مشروعها السياسي وقتالها ، ولاختراق وشراء مئات المقاتلين فضلا عن تنظيمات كاملة " بايعت " أمراءها بثمن مناسب على السمع والطاعة ، وكان النظام بين من باعتهم "داعش" النفط بوفرة ، فلا غرابة في أنه أغدق عليها من أموال إيران وروسيا ، وأمدها بكل ما تحتاج إليه من عملات، بينما كانت تنتزع محافظة كاملة من أيدي محرريها هي الرقة ، وتعلن قيام "دولة" إسلامية فيها، منحتها شرعية افتقرت إليها بقية التنظيمات السياسية والعسكرية ، بما في ذلك تلك التي تسمي نفسها "مجاهدة"، ومكنتها من الانفراد بنمط خاص من العلاقات مع " المواطنات والمواطنين" تمتلكه الدول وحدها ، يعني وجوده أنها تخطت سواها من التكوينات في كل ما يتعلق بهويتها وصلاحياتها ، وانتقلت إلى حال هي فيها نقيض النظام والطرف المقابل له ، وبالتالي الدولة البديلة له ، التي تستطيع الاستناد إلى شرعية مغايرة لشرعيته ، جديدة ومن طابع مقدس ، تعطيها حقوقا لا حدود لها على الخاضعين لها وحتى على من هم خارج مجال سلطتها، يمكنها استخدامها لجعل السوريين أدواتاً بيدها تفعل بهم ما تشاء، وإن لم تستخدمها ضد "دولة" البعث ، حليفتها التي تقاتل أعداءها وخصومها، أقله في مرحلة التخلق والنشوء . أخيرا ، عززت "داعش" قوتها بتوسيع صفوفها عبر اختراق التنظيمات الأخرى ، وإغراء مقاتليها بالطعام والسلاح ، ونشر أيديولوجية مذهبية عنيفة ومتطرفة ، أقنعت كثيرين أنه لا يوجد رد حقيقي على مآسي شعبهم غير إبادة كل من لا ينتمي إليهم ، بمن في ذلك المسلمون الخارجون على الأسد وخياراته.
بالإمساك بطرق الإمداد ، والسيطرة على الثروات الوطنية وخاصة منها النفطية ، وإقامة "دولة" صارت عابرة للحدود بعد انفجار الوضع في العراق، والتوسع من خلال الاستيلاء على المخزون البشري للتنظيمات الأخرى ، الذي تسارع بعد اعلان الدولة تسارعا مقلقا في كل مكان من العراق وسورية ، تثبت "داعش" تفوقها التنظيمي والتخطيطي على جميع التنظيمات الأخرى ، بما في ذلك الجيش الحر ، الذي عجز طيلة ثلاثة أعوام ونصف العام عن بلورة وتنفيذ خطط مماثلة في أي مجال من مجالات الصراع مع النظام ، ثم مع "داعش" وأخواتها.
واليوم ، وبينما يتراجع كل ما يتصل بثورة الحرية ، يتخلق على الأرض واقع تحتله بقوة متعاظمة "دولة" تحكم قبضتها أكثر فأكثر على مفاصل الوضع الميداني في مناطق إستراتيجية كثيرة من بلادنا، وتوسع تدريجيا حضورها ونفوذها فيها، بعد أن شرعت ترسي أسسها بطرق تغلب مصالحها وحساباتها كدولة على المصالح والحسابات، التي كانت تعتمدها كتنظيم، الأمر الذي جعلها تتخطى ، بفضل انفجار الصراع في العراق أيضا، جميع التنظيمات السورية ، بما فيها الجيش الحر، وتبرز ككيان تتجاوز سياساته الواقع السوري ، يتحول بسرعة إلى جهة سيكون لها شأن إقليمي ودولي لا يستهان به !.
ليست "داعش" نصيرا لحرية الشعب السوري ، بل هي عدوها اللدود .لكن الأمانة تجاه شعبنا تقتضي مصارحته بالحقائق، ليتمكن من مواجهتها بنجاح، ويتحاشى المزيد من الأخطاء والكوارث، التي ساقت ثورته من منزلق خطير إلى آخر ، وأضعفتها وتهدد اليوم وجودها . هذه الحقائق تقول : إن "داعش" ليست عدوا غبيا ،وإنها تعمل فوق خطط تتسم بالمكر والدهاء والتصميم ، تفلح في شطبنا يوميا من معادلات السياسة والوجود ، وتخبرنا : أن علينا مواجهتها بقدر من التخطيط والتصميم يفوق ما كانت سباقة إليه منهما ، وهو كثير ويضرب بجذوره في وطننا ، الذي تركنا فيه فراغا ملأته بنجاح على طريقتها !.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث