لأنّهم "عصيّون" على التشكّل كطائفة، بصورة تعاكس ميلاً سائداً لدى المكونات الدينيّة في المشرق العربي، تغري وضعيّة السوريين السنّة البعض، فينيط بهم مهمّة يمكن وصفها بالتاريخيّة و"التمدينيّة"، ليس لبناء سوريا ما بعد الأسد فحسب، ولكن أيضاً لإعادة تأسيس وتشكيل الكيانات الوطنيّة في "بلاد الشام" انطلاقاً من أسسٍ تقع على الضدّ من الأسُس التي قامت عليها، حتى الآن، الحياة السياسيّة ونظمها في دول الإقليم.
تتحدّث المقاربة، التي تلقى رواجاً نسبيّاً، عن "الوعاء الحاضن السني" وعن "السوريين السنّة" الذين شكّل تاريخ انتظامهم السياسي في أحزاب متنوّعة نموذجاً للانشقاق عن، وخروجاً على، أنماط الانتظام السياسي المشرقيّة القائمة على انقسامات عمودية، يبدو معها أن الأحزاب والدول الطائفيّة هي نمط إنتاجها السياسي الحصري. وعليه، يرى أصحاب تلك المقاربة، أنّ على "السوريين السنّة" ضرورة تجنب نسخ تجربّة "الشيعيّة السياسيّة" في عراق ما بعد صدام حسين، وهي ضرورة تتمّثل في عدم انتهاج مسلك انتقامي طغياني تجاه الطوائف الأخرى، أقليّة كانت أم أكثريّة، كما يفعل الآن نوري المالكي - "صدّام لايت" العراق الجديد.
لا أحد من أصحاب تلك المقاربة، ولا من مروجيها، يبدي جديّة أكبر في تشكيل معرفة موضوعيّة بهؤلاء "السوريين السنّة". فإن كان في متناول الجواب على سؤال من قبيل "من هم؟!" باعتبارهم "عموم" الجماعة البشريّة السوريّة التي لا تكابد هواجسَ وجوديّة، فإنّ أسئلة كثيرة جديرة بالطرح لا يبدو أن أصحاب تلك المقاربة في صدد إشغال أنفسهم بها وربما كان أوّلها: هل يمكن الحديث، أوّلاً، عن "سنيّة سوريّة" واحدة؟
صحيحٌ أنّه لا دراسات ولا معطيات تسمح بتكوين رؤيّة أشمل وأنضج عن "السوريين السنّة". لكن ما تسمح بقوله المعاينة المباشرة لواقع "المجتمعات السنيّة" السوريّة المشكّلة، بمدنها وقراها وأحيائها، لبؤر الثوّرة السوريّة "اللامركزيّة" هو: ليس ثمّة "سنيّة سوريّة" واحدة يمكن أن تشكل الحامل الاجتماعي للمشروع التاريخي المرغوب، أي بناء سوريا المدنيّة الديموقراطيّة التعدديّة.
نتحدّث عن سوريين سنّة هم، في الواقع، حاصل جمع غير مؤمّم (من أمّة) لمجتمعات أهليّة عصبويّة تتفوّق اختلافاتها المناطقيّة والفئويّة والقوميّة والطبقيّة على "وحدتها المذهبية" الإسميّة. وعليه، يمكن القول أنّ "منتوجاتها" السياسيّة، القائمة والمحتملة، لا يمكن أن تطرح مشروعاً وطنيّاً سوريّاً على أرضيّة "مذهبيّتها". وأقصى ما يمكن أن تفرزه الجماعة الدينيّة السنيّة السوريّة، انطلاقاً من هذه الأرضيّة، حزبٌ إخوانيُّ وحركات سلفيّة يعبر كلّ منها، كأي حزب آخر، عن مصالح طرف اجتماعي لا أكثر.
لا تتنّبه هذه المقاربة إلى كونها تستبطن نظرة تطييفيّة للجماعة البشريّة السوريّة وتصدر عنها. لذا، لا يبدو لأصحابها تناقضها الجوهري وتنافيها مع تطّلعها بالذات. إذ، وفي المبدأ، كيف يمكن إناطة مهمة تمدين ودمقرطة، بمكوّن اجتماعي منظوراً له من خلال مذهبيته؟
ومن حيث تريد هذه المقاربة أن تجيب على أزمات التشكّل الوطني والهويّة الوطنيّة، فإنها تعمّقها، إذ تستبعد باقي مكونات الجماعة البشريّة السوريّة، فيبدو معها أنّ العلويين هم طائفة النظام التي "لا أمل في شفائها"، وأنّ المسيحيين السوريين هم "جالية في وطنهم". وليس ثمّة انشغال بكتلة سنيّة تهيم نسبة كبيرة من عناصرها، أحزاباً وأفراد، بحلم دولتها القوميّة.
صحيحٌ أن الأقليات الدينيّة والقوميّة أعلنت، بأشكال ومعان مختلفة وبمستويات متباينة، شبه استقالة من الشأن الوطني. لكن الصحيح أيضاً أنّ السوريين العرب السنّة، الثائرين على نظام الأسدن لا يمتلكون، لأسباب بنيويّة، مقوّمات المشروع الوطني الساعي إلى دمج تلك المكونات بغيّة تشكيل "غالبيّة سياسيّة" تتطابق مع "غالبيّة اجتماعيّة" عابرة للطوائف.
لم يحصل أن كان لدى السوريين السنّة، كجماعة مذهبيّة أكثريّة، مشروع وطنيّ، منذ ولادة البلد الفتي. وحين امتلكت نسبة لا بأس بها منهم، وهي التي يمكن تحديدها باعتبارها الكتلة الاجتماعيّة التي نالت الحصة الأكبر من السحق والإفقار والتهميش نتيجة سياسات دولة الأسدين "البربريّة"، فإن هذا "المشروع" لم يكن لها، إلاّ أن تعرّفه سلباً: الثوّرة ضد النظام ودوّلته. وهي الثوّرة التي أبدت، لأسباب وظروف عديدة، استجابة شديدة لمداخلات إقليميّة ودوليّة من جهة، ولنزعات دون وطنيّة من جهة أخرى، الأمر الذي حوّل "حلّمها" بتشكيل وطنيّة سوريّة على أنقاض الحُطام الاجتماعي، الذي خلّفته مئة سنة تقريباً من الفشل المتمادي في مشروع بناء دولة ـ الأمّة، إلى وهم لا أكثر.