صخب التحرير

يبرر الألم الذي كابده سوريون على يد نظام "الدولة البربرية"، اعتبار كل هزيمة تُمنى بها قواته انتصاراً لهم، بصفتها "تحريراً" للأرض. النتائج الكارثية للصراع المرير المستمر منذ أربع سنوات، إضافة إلى التعنيف الشديد الذي تعرض له المجتمع السوري على امتداد عقود، فضلاً عن العنف العدمي الذي واجه به النظام سوريين ثاروا ضده، هي بعض أوجه ذاك الألم.

تجري احتفالات، صاخبة أحياناً، بـ"التحرير" المشار إليه، وتعم الفرحة التي كانت، في يوم آخر، مشروعة ومبررة، قبل الغياب شبه المطلق لأية بوادر تشير إلى إمكانية إنهاء الكارثة الإنسانية التي انتهت إليها حال الثوّرة. وذلك بمسؤولية النظام شبه الكاملة عن هذه النهاية، على المستوى المحلي، من دون إغفال "سبحانية" ثوريّة، عبّرت عنها أفضل تعبير "نخب" الثورة، السياسية بالدرجة الأولى. إضافة إلى مسؤولية إقليمية ودولية لا يمكن فعل شيء حيالها، كونها تصدر عن الجوهر الأخلاقي للعالم في زمننا هذا.

ولأن أوضاعاً في غاية التعقيد، أفضت إلى مأساة إنسانية كبرى، ترسم تفاصيل المشهد السوري وحدوده، تظل "الحلول السهلة"، التي تنهض على مشاعر فوّارة، ضمانة لمشروعية الموقف والقناعة والرأي بالنسبة إلى من يرى في طرف أنفه، طرف العالم. لمن يحتفل.
قد لا يتاح لكثيرين إلا أن يحتفلوا بـ"التحرير"، لا لشيء، سوى لأنه ثمة معسكرين يخوضان حرباً ضاريّة، وعلى الجميع أن يتخذ موقفاً بناء على الاستقطاب الثنائي القائم.

يوفر نظام العنف المحض، بكرم فائض، عدداً لا متناهيّاً من الذرائع للاحتفاء بهزائمه، دون سؤال: ليس عن الكلفة البشرية، فهذا أمر مفروغ منه وقد بات وراءنا، فضلاً عن كونه ثمناً يتعيّن دفعه.. وليس عن الهوية الإيديولوجية للمحرِّرين أصحاب الانتصار فهم أبناء البلد و"سكانه الأصليون".. لكن، ببساطة، عن الترجمة السياسية لـ"انتصار التحرير".

التشخيص، الذي بات رأياً وازناً ومهيمناً، يرى إلى الصراع السوري بالنحو الذي يجري وفقه، على الأقل منذ سقوط مدينة القصير، باعتباره مجرد صراع إقليمي ودولي، أو هو يتواصل بإرادة إقليمية ودولية في انتظار حسم ملفات كثيرة وشائكة ومعقدة، تقع خارج الحيز الجغرافي للأراضي السورية. التشخيص هذا يُنسى في لحظة "التحرير". يفقد وزنه وتتلاشى هيمنته.
قد لا يملك من اختار أن ينحاز للثورة، القدرة على ضبط مشاعر التعاطف حين يرى سوريين يحتفون بهزيمة لقوات النظام. ليس عليه أن يفعل ذلك أصلاً. الرقابة على المشاعر وقمعها أسوأ ما يفعله كائن عاقل. غير أن المشاعر لا ترى، إن فعلت، إلا جزءاً صغيراً من المشهد، وهو الجزء الذي لم يعد، منذ التاريخ المشار إليه، ينفع بشيء.

"استعاد سوريون، عاملون في قناة تلفزيونية سورية، انحازت للثورة منذ اندلاعها، الأهازيج التي رددها سوريون في أشهر الثوّرة الأولى: "مندوسهم … مندوسهم بيت الأسد مندوسهم". هؤلاء عينة من المحتفلين بالانتصار الميداني الذي حققته أخيراً قوات مناهضة للنظام في منطقتين سوريتين.

تغيب في لحظة الاحتفال والاحتفاء الأسئلة الكبرى، التي يجمعها ويكثفها السؤال العبثي الذي يشتهر به زعيم لبناني، هنّأ سوريي الثوّرة بـ"التحرير"، بطرحه كثيراً: "وماذا بعد"؟
لا يمكن للانتصارات الميدانية أن تكتسب مضموناً تحرريّاً جديّاً إلا حينما تسهم في التهيّئة للمزيد منها عبر السياسة، الأمر الذي لا يحدث بإرادة دولية وإقليمية، وهي أقوى من إرادات جميع الفاعلين السوريين المنخرطين في صراع يُخاض يوماً فيوماً، بحدود سيطرة سائبة تقريباً، وباحتمالات نهاية غائبة، ومن دون أمل كبير في أن يعود العالم، ذات يوم، إلى رشده فيرى الأمر على النحو الذي يجب أن يرى عليه: طغمة متوّحشة تبيد شعباً وتدّمر بلداً (تدمّر شعباً وليس معارضين!).

حين يأتي ذلك اليوم، إن أتى، لن يكون صخب الاحتفاء بالتحرير وجهاً آخر لأنين الحرية، ولا تعبيراً عن غيبوبة جماعية، أو انتشاء جماعيّاً بالخراب المعمم.