السبت 2024/07/27

آخر تحديث: 14:35 (بيروت)

أولمبياد باريس: رسالة حب وسلام... لا استعراض للقوة!

السبت 2024/07/27
أولمبياد باريس: رسالة حب وسلام... لا استعراض للقوة!
increase حجم الخط decrease
بعد سنوات من التحضير، صدّرت فرنسا للعالم في حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية بباريس، صورة أمة تحتفي بالتنوع والتعدد. وكان ذلك أكثر تأثيراً بشكل خاص، بعد القلق الذي أحدثه تقدم اليمين المتطرف في السياسة المحلية خصوصاً بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة قبل أسابيع.


الحداثة التي صدّرتها باريس 2024 تأتي من قيم متعددة وثقافات مختلفة يمكن للدولة الديموقراطية المعاصرة وحدها أن تحتويها وتحميها، بشموليتها للأفراد والأقليات الذين تختلف طرق تعبيرهم عن نفسهم، لكن هويتهم تبقى واحدة، لأن الانتماء إلى دولة بهذه المواصفات يتخطى العرق واللون والدين والطائفة والجندر والهوية الجنسية وغيرها من التفاصيل التي تم الوصول إليها بعد قرون من التطور الحضاري بدأ في مدينة الأنوار منذ الثورة الفرنسية.

ومنذ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، شهدت فرنسا تطوراً ملحوظاً في مفهوم الديموقراطية والفردانية. ولم تكن الثورة الفرنسية مجرد حدث سياسي، بل كانت بداية لتحول ثقافي واجتماعي كبير أثرى القيم الحديثة للدولة الفرنسية. في تلك الفترة، تم وضع أسس حقوق الإنسان والمواطنة التي شكلت العمود الفقري للديموقراطية عموماً، وليس فقط في فرنسا. ومع مرور الوقت، تطورت هذه القيم لتشمل مزيداً من الفئات المجتمعية، ما أدى إلى تعزيز التعددية وقبول التنوع كجزء لا يتجزأ من الهوية الفرنسية.

ولعل أبرز لقطات الحفلة كان تقديم لوحة "العشاء الأخير" بتجريدها من رمزيتها الدينية واستبدالها بشخصيات من مجتمع الميم، ما أثار حفيظة المتدينين في مواقع التواصل، لكن اللائكية (العلمانية) الفرنسية تحضر من أجل تقديس الفردانية والابتعاد عن الدين كسلطة وإعطاء الأفراد حق السخرية من السلطة الدينية، كما أن المشهد نفسه ليس جديداً بل هو نسخة فرنسية مما قدمته النجمة مادونا منذ تسعينيات القرن الماضي باستخدام "العشاء الأخير" في عدد من عروضها الحية، بما في ذلك أداء مبهر لأغنية "هولي ووتر" قبل أعوام ضمن جولة "ريبل هارت".

وظهرت انتقادات للعرض من رجل الأعمال أيلون ماسك الذي لم يعد يحاول إخفاء ميوله السياسية نحو أقصى اليمين وكتب بأن العرض "غير محترم للغاية للمسيحيين"، فيما كتبت اليمينية المتطرفة والنائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي، ماريون ماريشال، في "إكس": "إلى جميع المسيحيين في العالم الذين يشاهدون حفلة باريس 2024 وشعروا بالإهانة من محاكاة ساخرة. اعلموا أن فرنسا ليست هي التي تتحدث لكن أقلية يسارية مستعدة لأي استفزاز".

وأظهرت ماريشال في تغريدة أخرى غضبها من وجود الفنانين المثليين والدراغ كوينز في افتتاح الأولمبياد ووجهت خطابها العنصري نحو المغنية أيا ناكامورا المتحدرة من أصول مالية، بشكل يظهر الوجه الحقيقي لليمين المتطرف الذي لو كان يحكم فرنسا لما ظهرت حفلة الأولمبياد كما البارحة بكل تأكيد.


والثقافة والفن كانا دائماً جزءاً أساسياً من الهوية الفرنسية وداعماً قوياً للقيم الديموقراطية. والمثقفون الفرنسيون مثل فيكتور هوغو وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وغيرهم قاموا بتعزيز قيم الحرية والتعددية التي تلعب فيها فرنسا دوراً محورياً على الساحة الدولية من خلال التأثير عبر القوة الناعمة، وهو ما استعرضه الحفل بالكشف عن تماثيل متتالية لشخصيات ناضلت سياسياً وفكرياً من أجل قيم التعددية ضمن الجمهورية.

لكن البلاد تواجه تحديات مستمرة في الحفاظ على قيمها الديموقراطية أمام التغيرات السياسية والاقتصادية والتأثير الأجنبي من دول مثل روسيا التي تدخلت مراراً للتأثير في الديموقراطية المحلية كما أثبتت التحقيقات. كما أن تصاعد التطرف السياسي والاستقطاب الاجتماعي يشكل تهديداً لهذه القيم مثلما يظهر في خطاب أقصى اليمين وأقصى اليسار في البلاد حالياً، علماً أن فرنسا شهدت  في العقدين الأخيرين، عدداً من الحركات الاجتماعية التي عكست تفاعل المجتمع مع السيستم ككل بما في ذلك حركة "السترات الصفراء" على سبيل المثال.

وفي العرض، طوال أربع ساعات، تابع الملايين رحلة شخص مقنّع يرتدي قناعاً يحمل الشعلة الأولمبية فوق أسطح باريس وفي مدينتها السفلية، في تصور حديث ربما لـ"جان دارك" التي لا تعتبر فقط رمزاً للمقاومة في فرنسا، بل باتت اليوم تعتبر رمزاً للسيولة الجندرية والنسوية، لدرجة الاحتفاء بها في أعمال لنجوم عالميين مثل مادونا التي استخدمت رمزية جان دارك العام 2019 لتصوير أغنية "دارك باليه"، إحدى أشد أغنياتها انتقاداً لازدواجية المعايير لدى الكنيسة.


لكن الشخص المقنّع في العرض، يمكن أن يكون رمزية لشيء آخر، خصوصاً لمتابع لا يعرف ربما قصة جان دارك أو لم يزر منطقة النورماندي ومدينة روان حيث قتلت الشابة العام 1431 عندما كان عمرها 19 عاماً، وتتواجد متاحف ضخمة تسرد قصتها التي استخدمت عبر التاريخ من قبل تيارات سياسية فرنسية مختلفة لإلهام الناس من داعمي الملكية البائدة الذين ركزوا عليها بسبب دعمها للنظام الملكي، إلى الليبراليين الذين ركزوا على أصولها الفلاحية المتواضعة بعيداً من البرجوازية، إلى الكنيسة التي اعتبرتها شهيدة دينية، وغير ذلك، قبل أن تأخذ تفسيرات قصتها منحى آخر في القرن العشرين والحادي والعشرين، مع تراجع سلطة الدين تحديداً وسطوته على الأفراد الذين يريدون أن يعبّروا عن أنفسهم بشكل مستقل عن الأيديولوجيا المصنعة مسبقاً.

والمقنّع يصبح في هذه الحالة مجرد شخصية رمزية أو "أفاتار" يمكن لأي فرد تخيل نفسه مكانه، تماماً مثل شخصية "لينك" الأيقونية التي ابتكرها مطور الألعاب الياباني شيغيرو مياموتو للعب دور البطولة في سلسلة "ذا ليجند أوف زيلدا" التي تنتجها شركة "نينتندو"، حيث يشكل البطل الصامت الذي لا يتكلم إلا نادراً صلة الوصل بين اللاعب واللعبة، ومن هنا يأتي اسمه الذي يعني حرفياً "صلة الوصل"، كي يشكل جسراً بين اللاعب وبين العالم الخيالي الواسع الذي يحتاج بطلاً، لا يهم لونه وهويته الجندرية أو دينه أو أي تصنيفات أخرى، أمام فردانيته وخصوصيته.

في الثقافة الفرنسية، ربما يمكن النظر إلى المقنّع اليوم كرمز للفردانية التي كانت حاضرة منذ القرون الوسطى. من جان دارك (التي لم تكن مقنّعة فعلاً) إلى الكونت دي مونت كريستو في قصص ألكسندر دوما، إلى شبح الأوبرا، وحتى في اللوحات الموجودة في متاحف البلاد، بما في ذلك المتاحف الصغيرة في الأرياف. كل هذه الشخصيات تعبر عن جوهر الفردانية والحرية الشخصية من وجهة نظر معاصرة تقرأ ذلك التراث الغني، العام 2024.

لم يكن العرض استعراضاً للقوة، مثلما يجري عادة في مثل هذه المناسبات الرياضية الكبيرة، بل كان رسالة حب للعالم وللإنسانية نفسها. ولم يكن غريباً أن يكون هناك احتفاء بالفردانية كقيمة لأن الرياضيين الأولمبيين يمثلون تلك القيمة سواء كانوا واعين لذلك أم لا، لأنهم عندما يتنافسون، يتنافسون من أجل نفسهم قبل دولهم، كما أن رحلتهم الشاقة المليئة بالتدريب والعمل الشاق والقصص الملهمة نحو المجد ترسم إطار تلك السردية أمام الجمهور الذي يتابع وأمام الإعلام الذي يعلق.

ولم يكن هنالك أفضل من لحظة ظهور أسطورتَي التنس رافاييل نادال وسيرينا وليامز لحَمل الشعلة الأولمبية فوق نهر السين، على اعتبار أنهما ربما أفضل من يمثل قيمة الفردية في وجه السيستم السائد، خصوصاً وليامز التي تحدت لعبة يهيمن عليها اللون الأبيض والجمال الكلاسيكي وقيم الرشاقة المؤطرة للنساء وغيرها، كي تهيمن على اللعبة لدرجة أنه بعد اعتزالها لم يعد هناك من يمثل التنس النسوي عالمياً حتى مع وجود لاعبات متميزات.

كل ذلك كان قصة كفاح استعرضتها باريس ومازالت تخوضها، بشكل يمكن تلمسه تحديداً في عرض المغنية الفرنسية من أصول مالية أيا ناكامورا التي كان سياسيو وجمهور اليمين المتطرف الفرنسي يهاجمونها بأسوأ العبارات العنصرية الممكن تخيلها منذ الربيع الماضي، رغم كونها واحدة من أكثر المغنيات الفرنسيات نجاحاً على الإطلاق. وفي أدائها خلال الحفلة، رافقها موسيقيون من الحرس الجمهوري الفرنسي، في إشارة رمزية لافتة تعكس وحدة وتضامن الدولة مع جميع أفرادها.

ويعني ذلك أن الديموقراطية كنظام سياسي لم تتوصل البشرية إلى ما هو افضل منه، يعمل ضامناً لحماية الأقليات والأفراد فيه من تطرف اليمين واليسار على حد سواء، لكنه سيستم هش وقابل للكسر بسهولة إن مالت الغالبية المصوتة نحو التطرف السياسي والاستقطاب كما يلاحظ في دول أخرى غربية، في أوروبا أو في الولايات المتحدة، حيث يبدو أن الكثير من الأفراد يأخذون الديموقراطية على أنها أمر مُسلَّم به، رغم أن غالبية دول العالم لا تتوافر فيها أسس ديموقراطية أصلاً.

ومع صوت سيلين ديون الذي عاد للغناء بعد مرض عضال ومؤلم أجبرها على الاحتجاب، كان الختام مؤثراً. غنت ديون التي أعلنت إصابتها بـ"متلازمة الشخص المتيبس" نسخة مشحونة بالعواطف من أغنية "L’hymne a l’amour" (نشيد الحب) لإديت بياف. ومع صورتها واقفة فوق برجل إيفل، بدت فرنسا عبرها وكأنها تقول للعالم أنها لا تموت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها