تبدو تلك الأسئلة غير ذات أهمية لمنتجي الجزئين الأول والثاني من المسلسل القصير "البيت بيتي"، الذين يبدو انشغالهم بإدراك "الإيفيه" أكبر من اهتمامهم بصناعة دراما ذات منطق متماسك، أو برغبة في ترسيخ قيم إيجابية حتى أو سلبية.
يقصد بالـ"إيفيه"، ليس ما يبعث على الإضحاك، وإنما الإشارة إلى الرغبة في إنتاج ما هو سريع في تأثير مفارقته وفي استجلاب الإطراء لنفسه في الوقت ذاته، وهو ليس رديف الحرفية فتلك تعني امتلاك أدوات الصناعة والتمكّن منها، ولا يعني كذلك "الاستسهال"، فهذا يشير إلى اتخاذ قرار بالتهاون رغم القدرة على الفعل المتقن، أما "الإيفيه" فتَوهُم، ناتج عن ضحالة وعي، بامتلاك الحرفية لمجرد الإتيان بما يحمل ظاهره مفارقة لطيفة.
في الجزء الأول من "البيت بيتي" الذي صدر العام 2022، حقق صناعه، المخرج خالد مرعي وكاتبا السيناريو أحمد عبد الوهاب وكريم سامي، تأثيراً طيباً لدى المتلقي، لريادتهم في تقديم عمل الرعب في إطار ساخر، وتمكّنهم عبر قصة وحبكة بسيطتين من إدراك هدفهم، غير أن ما قد يبدو مقبولاً بالنسبة إلى التجربة الأولى، لن يبدو كذلك لدى تكرارها، ليس بالأدوات نفسها فقط، وإنما بما هو أقل منها، كما جرى مع الجزء الثاني من العمل الذي انتهى بثه على منصة "شاهد" الخميس الماضي.
ثمة فارق جوهري بين "الرعب" كنوع إبداعي عربي وهوليوودي، فهو في الأول يقوم على موروث أسطوري يقاوم فيه الخير الشر وينتصر عليه، مثل قصص مقاومة الجن والمس بأشكالها المختلفة، أو أن يكون نتيجة لتحول البراءة المطلقة إلى إثم مطلق. فـ"النداهة"، مثلاً، فتاة غرر أحد الرجال بها فأغرقها بعدما حملت منه، فيعود شبحها ليظهر مغوياً الذكور البالغين فقط دون غيرهم لتنتقم في صورتهم من الرجل الذي خدعها وقتلها، حتى أن الجمهور العربي ما زال يتعامل مع الطارئ الاجتماعي الذي يفتقر حدوثه إلى منطق عقلاني، بالمخيلة الأسطورية نفسها، فما يفتأ المتلقي يسبغ الخرافة على تفسير أشنع الحوادث التي يواجهها. أما الرعب الهوليودي، فيعمد، نظراً لافتقار بيئته للموروث الأسطوري، إما إلى سبب اجتماعي، كحادث قتل أو تعذيب أو فشل لتجربة علمية، أو إلى استعارة بيئة أخرى سحرية من الشرق باختلافاته الثقافية والحضارية لتكون مسرحاً لأحداثه أو نقطة لانطلاق موضوعه.
وعلى صانع الرعب العربي، إدراك تلك الفروق الجذرية في اختياره موضوع نصه ومعالجته لاحقاً، كما يجب عليه أن يفطن أيضاً إلى موقعه الأدبي من الخرافة والاشتباك معها، ليس فقط لأن ترسيخ الجهل لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال غرضاً فنياً، وإنما لأن الاعتماد على الخرافة كحل لنقط التأزم في النص هو من قبيل الاستسهال وليس الصنعة، ولا يأتي غالباً على قدر ما بذله من مجهود وخيال للوصول إلى نقطة التأزم، مثل أن تكون طبيباً نفسياً فتستدعيك المحكمة للحكم على الصلاحية العقلية لسفاح فترجئ تصرفاته إلى مس الجن وتحكمه فيها، كما حدث في الحبكة الهزلية لنهاية "الفيل الأزرق" الفيلم والرواية على السواء.
وبالعودة إلى مسلسل "البيت بيتي" في جزئه الأول، فإن شراً مستطيراً يضمره أخ لأخيه جعل من حادث قتل عادي على سبيل الخطأ، حدثاً مأساوياً حوّل جميع أرواح ضحاياه أشباحاً حتى يُزال الغموض عن القصة الحقيقية لموتهم، فصنعت الحكاية التقليدية لقابيل وهابيل وما أضافوه إليها من عناصر أخرى مستقاة من الموروث الشعبي، بيئة مقبولة لنمو دارما العمل الفني، فيما أضاف عنصر السخرية الذي دفع بسيرورته إلى نهايتها، عاملي جذب وريادة، غطيا على الصورة الكاريكاتورية لشخصية المريض النفسي والشرير اللذان لُعب دورهما بأداء متواضع للغاية، وكذلك بعض الهنات الدرامية التي شابت القصة.
وربما لذلك النجاح، قرر الصناع أنفسهم صياغة الجزء الثاني على المنوال نفسه، فجعلا المكان شخصية فاعلة في السرد، واستبدلا بقصر الجزء الأول فندقاً، وأبقيا على صفة النحس (اللعنة) لصيقة بالبطلين ليدفعوا بهما إلى حل اللغز، الذي كان الشرير نفسه، الشخص والممثل، السبب فيه، ثم ذهبوا للبحث عن ثيمة أسطورية يستطيع المتلقي التماهي معها في تحريك الدراما، التي هي في الجزء الثاني "لعنة الفراعنة".
إن في اللجوء لتكرار حدوث الشيء/البيئة/ المأزق أهدافًا بعضها فلسفي والآخر ساخر، وكلا المعنيان يصلح للنهوض بعمل فني جاد، لكن صناع "البيت بيتي"، الذين كانوا يبحثون عن الإيفيه، وقعوا في أكثر من مأزق درامي لم يسعوا للخروج منه.
فالفندق الذي كان مقدراً له أن يكون مسرح الأحداث، تخلى فجأة عن مكانته إلى المقبرة الفرعونية التي وجدوها في الحلقات الأخيرة من المسلسل، والمسؤولية الجنائية التي كانت موزعة بين ثلاثة فاعلين فقط خلال 80% من زمن العمل، هم الأب الذي قتل أولاده والباحث الأثري وجد البطلين، اتسعت فجأة أيضاً، وفي مساحة شديدة الضآلة لرابع وخامس طارئين على الأحداث، لم يمنطق دوريهما بأي صورة من الصور، هما عائلة "الكاتب" والشيخ (وليس الدجال)، فيما بقيت كل العقد متروكة لم تحل.
فلم يجِب المسلسل على الكيفية التي أحرق بها الفندق ليأتي على أغلب ساكنيه، ولا الزمن الذي وقع فيه الحدث، ويبدو سابقاً لأحداث الجزء الأول، ولم يبين كذلك أسباب أو كنه المرض الغامض لحفيدة عائلة الكاتب، وبدلاً من ذلك كله لجأ صناعه إلى ترسيخ الخرافة كطريق ظنوا أنه السبيل المنطقي لكل إخفاقاتهم الفنية.
فبغض النظر عن العلاقة البعيدة بين علمي التاريخ والمصريات؛ كيف يمكن للص أن يثق أو يستعين بعالم دون أن يبدو عليه أي من علامات الفساد؟ وكيف يمكن لذلك العالم أن يؤمن بـ"لعنة الفراعنة" الخرافية؟ ليس ذلك فحسب بل أن يكون له علاقة بمن يسمون أنفسهم شيوخ (وليس دجالين) فك تلك اللعنة؟ ولماذا كان إخراج المومياء من مكانها حتمي؟ ولماذا طفلة هي من تقتل وكان الأسهل وضع أبيها الأضعف مكانها؟
ربما تكون لتلك الأسئلة كلها إجابة واحدة: الرغبة في إدراك الـ"إيفيه"، حتى يظهر الكاهن المومياء في نهاية المسلسل يبحث هو الآخر عن البطلين لمساعدته في الكشف عن حقيقة موته حتى ترتاح روحه في رقدتها الأبدية!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها