أتابع مقالات كاتبات وكتّاب سوريين ولبنانيين تركوا البلد في موجة الهجرة الأخيرة بسبب الحرب السورية والجوع اللبناني. ناجون بكل ما للكلمة من معنى، يستحقون وسام الصبر كغيرهم ممن سبق وسيلحق. أرى تأرجحهم بين حياة لفظتهم وأخرى لم تفتح أبوابها بعد، فأعود إلى ولاية تينيسي في العام 2008. يومها، كنا في بداية عالم وسائل التواصل الذي يجتاحنا حالياً، وكان الاتصال بلبنان يستدعي المشي نصف ساعة على الأقل لشراء بطاقة تمنحك بضعة دقائق تطمئن فيها على الأهل لا أكثر، أما الأصدقاء والمعارف من الوسط الثقافي فكانوا غالبًا من سكان الإيميل المقيمين.
يومها التقطت صوراً قرب العلم الأميركي وأكوام القشّ، وقرب الأشجار القريبة والسناجب، لأضيف إلى صور المطار والرحلة المنهكة بين المدينة التي ظلت تهددنا حتى اللحظة الأخيرة قبل الصعود إلى الطائرة، وبين البلد الجديد في آخر العالم الذي أتيت إليه على مضض. وفي الحقيقة، فإن الأمتار القليلة بين الأمن العام في مطار بيروت وباب الطائرة، بدت لي أطول بكثير من البحار والقارات التي اجتزناها في ما بعد. وثّقتُ ذلك كله بكاميرا الكوداك الصفراء القديمة التي تحتاج تظهير أفلامها، وحين أخذتها إلى أقرب متجر يقدّم هذه الخدمة في البلدة الصغيرة قرب ناشفيل، فتح الشاب الغطاء الخلفي وسحب بيده الفيلم، فلم يستطع إخراجه، ما أدى إلى ضياع تلك الصور كلها، وانتهى الأمر باعتذار مهذّب وكاميرا تخرج منها الذكريات على شكل كومة ميتة من الشرائط البنيّة.
يومذاك، صُدمت جدًا من تصرّفه -الذي بات اعتيادياً اليوم فقلّة المهارة صفة أميركية أصيلة- لكن انكليزيتي وخجلي كوافدة جديدة في ذلك الوقت جعلاني أطوي خيبتي وأعود مرة أخرى سَيراً على قدميّ في مسافات شاغرة وفي بلد لا يمشي فيه إلا المتسولون، لأراقب مرور الوقت على طرف الغابة الصغيرة حيث لا شيء يحدث سوى زقزقة العصافير.
لم أعد أذكر الكثير من تلك المرحلة، أنا المسكونة بالتفاصيل والأماكن. ثمة ستارة سميكة عليّ إزاحتها كلما أردت التحدث عن اللقاء الأول مع هذا البلد الذي لم يعد غريبًا ولا مفاجئًا اليوم. هل أصبحتُ أميركية؟ لا أعرف، لكني أشاطر سكّان هذا المكان أحداثاً كثيرة نسجت بيننا ألفة، وهل الانتماء سوى تاريخ مشترك؟ أما الوطن، الوطن الصغير والجارح كالنمر كما يقول الماغوط، فقد بقي هناك على باب الطائرة، أنظر إليه بعتب، فيفتح ذراعيه ونبكي طويلاً، ثم ابتعد عنه مسرعة. أستعين بفوكو ونظرياته عن أولياء الدم والسيطرة، أهرب إلى تحليلات ألتوسير عن الإيديولوجيا ولونها الذي يصبغنا، أستحم في عالم العقل الرحب كنوع من التخدير الناجح للعاطفة.
أين يقع لبنان اليوم؟ نعم على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط، في هذا الشريط الآسيوي الملتهب، على باب القارة الشاسعة وفي قلب العالم القديم وامبراطورياته وعواصفه. ممتاز، أقول لنفسي، أين يقع بالنسبة لكِ؟ ثم أحاول اجتراح إجابات غير موجودة. لكن ابني أجاب عني حين قال لجدّته يوماً بالإنكليزية "لبنان يقع في الماضي". يا للألم الذي تسببه هذه الجملة! رددت خلفه ضاحكة: "لبنان يقع في الماضي"، كيف عرف ابني ذلك وهو الذي لم يزر البلد إلا رضيعًا؟ وأي ماضٍ كان يقصد؟ ماضي الجينات التي ورثها مني وهو اللاشرقيّ واللاغربيّ؟
أظننا كمهاجرين، كنازحين، كمطرودين، نكفّ عن العيش في الأماكن. نقطع صلتنا بها، نستأصل أعضاء الحنين التالفة ونقطع حبال السرّة بقسوة الحب العنيف. نفرغ جعبة الذكريات كل ليلة لنملأ الرأس بكل ما هو خفيف وعابر ولا يترك أثرًا. هكذا نجونا بالنسيان، هكذا عشنا كي لا نتذكر. ثم في يوم من الأيام، اكتشفنا بأننا أحرار تماماً. أحرار من الحب والكره، شُفيت ذاكرتنا وصرنا ننتمي للجمال والإنسانية فقط. لكل ما يدفع الانسان إلى مواصلة السير. للرحلة ننتمي: الرحلة الممتدة بين القلب الشاسع الأعمق من العقل، على طريقة ابن عربي، أو بين الإيمان بأنه "لا إمام إلا العقل" على طريقة المعتزلة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها