الإثنين 2024/09/02

آخر تحديث: 17:31 (بيروت)

مسافة جسد

الإثنين 2024/09/02
مسافة جسد
الفنان اللبناني إيهاب أحمد
increase حجم الخط decrease
ها هي تمطر مجدداً. يتساقط الماء ليصل السماء بالأرض، وكأن خزانات الأعالي كلها قد فُتحت فجأة رغم أننا في عزّ الصيف. طبيعيّ، فنحن في ولاية ميشيغان ذات المناخ المتغيّر، ولاية البحيرات العظمى التي يسود فيها المثل القائل: إذا لم يعجبك الطقس الآن، إنتظر خمس دقائق فقط!

لا شيء حقيقياً هنا. هكذا أخبر نفسي، لا الشتاء شتاء، ولا الصيف صيف. لا الوظائف ثابتة ولا الصداقات ولا الملكية الشخصية. كل شيء خاضع للتغيير المستمر، فالدولار لا يحب المكوث في الخزنات أبداً. هكذا هي أميركا، مصنوعة من رمال متحرّكة، ومهما حاولت فهمها بعقلك المبرمج على العالم القديم، ستكتشف بأنك ما زلت في مرحلة الاستكشاف، لذلك تقف على الحياد كي لا تكرهها كما فعلت فريدا كاهلو، أو تحبها كما فعل كثيرون باحثون عن الحلم الأميركي." أفضل من بلداننا"! يقولون لي. "الضجر ترف". أهزّ برأسي وأسارع إلى إنهاء المعاملات اليومية الطويلة.

لكني لا أريد الحديث عن أميركا، بل عمّا بنته حولي، عما غيرّته فيّ من تصرّفات لا أتنبه لها إلا حين أقابل شخصاً قادماً من العالم العربي. لقد صرت أكثر تنبّهاً لمساحتي الخاصة مثلاً. ولا أتحدّث هنا عن المعنى المجازي للعبارة، بل عن المعنى الحرفي. أتحدّث عن المِتر المحيط  بكل شخص. دائرة التماس الوهمية التي تستدعي الاستئذان كلما تجاوزناها. الدائرة التي تذكّرني بدوران الدراويش حول أنفسهم. هكذا، يعتذر الأميركيون حين يمرون قربك وإن لم يلمسوك، يعلنون بصوت مرتفع عن وجودهم خلفك أو قربك "أنا هنا وراءك"، "سامحني أمرّ بقربك الآن". ويشرح لك الطبيب بالضبط كيف سيلمسك، كي لا تفهمه بطريقة مغلوطة، كما يقترب منك الجميع بطريقة مدروسة بحسب درجة قربهم العاطفيّ.

التواصل على الطريقة الأميركية يُعدّ برودة وقلة لياقة بالنسبة إلى أهل البحر المتوسط. يسمّوننا "ذوي الدماء الحارّة". حتى الفرنسيين بقُبلاتهم المتبادلة على الخدود، يثيرون الاستغراب هنا. "قبلات حقيقية يطبعونها على خدود الغرباء؟"، سألتني مرة صديقتي الأميركية التي تدرس الفرنسية. فكّرت بأن أقول لها: لديكم ترف المساحة هنا. أميركا شاسعة. أراضٍ كثيرة قتلتم سكّانها الأصليين وعثتم بها كما تشاؤون وكأنكم ورثتموها عن أجدادكم. المساحة "هناك"، في العالم القديم، ترف. أشخاص كثر يلتصقون ببعضهم البعض في أحزمة بؤس بسبب ضيق العيش والموارد. فكّرت في غزة ذات الكثافة السكّانية الأعلى في العالم، وما يثيره الحديث عن مساحة شخصية على الطريقة الأميركية من حفلة ضحك جنونية في ظلّ التكدّس الذي فُرض منذ أكثر من سبعين سنة على السكّان هناك.

الجسد تاريخ وأيديولوجيا. والجسد الأميركي محتاج دوماً ليعلن عن نفسه. مسألة أمان أيضاً، في بلد ينتشر فيه السلاح الفرديّ كالفِطر، وتتجاور فيه ثقافات العالم أجمع بمستحبّاتها ومحظوراتها. وبهذا المعنى، فالجسد ليس فقط لحماً وعظماً وجلداً وأنظمة معقّدة يشترك فيها الكائن البشرّي مع غيره من الكائنات، بل وعاء للروح وحدوداً للكيان. لذلك لم تتعامل معه الأديان باستهانة أبداً، بل وضعته في صلب عقيدتها، مقوننةً ما يستدعي الحجب كما فرضت على النساء، أو الكشف كما عرضت الجسد المقدّس على الصليب. أما الفن، فقد دار طويلاً حول أفكار العُري والسَّتر. وكم من فيلم يبدأ بمَشاهد جسد راقص، جسد تحت المطر، جسد تحت التعذيب، جسد مستلقٍ، جسّد متأهب...

كنساء كبرن في المجتمعات الشرقية، لا بد من المرور بمرحلة تحرّر داخلية طويلة ومعقدة قبل أن نتعلّم كيف نحبّ أجسادنا. لا بد أن نستردّها من أيدي القبيلة والمتصرفين بها على أنها مِلك عام. لا بد من خصخصتها واستعادتها، كي لا تعود عورة، ولا امتيازاً. لا بد أن نحترم الجسد الشرقيّ كي يحترمه الآخرون، فلا يعود مشاعاً لآلة القتل المريعة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها