تركض صديقتي الشرطية نحو حقيبتها، تنتزع المسدس على عجل لتضعه بعيداً من متناول الأطفال. أنظر نحو الأعلى، فأرى قبعتها العسكرية في الخزانة المفتوحة، أقول لها: لم أرك يوماً بلباس الشرطية، تضحك وتقول: "أظن أني أشبه بالرجال بقصة شعري القصيرة هذه".
أنظر من شباك شقتها المطلة على فناء خلفي فارغ، أفكّر بأن الشبك الحديدي الذي يغطي النافذة يشبه السجن تماماً. تعيش هذه الشابّة وحيدة هنا منذ انفصلت عن زوجها. تقول لي: أردت دائماً أن اعيش في هذه المدينة. مدينة اسمها "هامترامك"، عجيبة جداً لأنها تضم مهاجرين جدد من أوروبا الشرقية وبنغلادش وباكستان واليمن. مدينة شعبية وليست جميلة، لكنها شديدة الحيوية الاقتصادية كمعظم مناطق الجيل الأول من المهاجرين.
في الواقع لم أفكّر يوماً بأن أصادق شرطية! معظم أصدقائي كانوا غالباً من أوساط الصحافة أو الكتابة أو التعليم، لكن الأطفال يجبرونك على الاحتكاك بيافعين من خارج دائرتك تماماً. فإبني رامي، اختار ابنها صديقاً له من بين كل أطفال المدرسة الآخرين، ووجدنا نفسينا في احتكاك يومي مباشر كي نتيح للولدين اللعب معاً.
تحبس دموعها وهي تخبرني عن شعورها بالذنب، عن الأمومة، عن جدّها البوّاب، عن زوجها الأول الذي اقترنت به في سن الرابعة عشرة، عن خدمتها في الجيش ثم في الشرطة، عن بيئتها الدينية المسيحية المتشددة. أحتار: هل أخفف عنها؟ هل أستمع فقط وأهزّ رأسي؟ لماذا تبدو قصص النساء متشابهة في كل مكان؟
أنقل لها بعضاً مما تعانيه المرأة في شرقنا العظيم، نتفق على ضرورة الابتعاد عن ضغوط المجتمع وتوقعاته، على ضرورة تحكيم العقل والنظرة النقدية. أشعر بالامتنان لإبني الذي جعلني أحظى بصديقة جديدة. أنظر من النافذة، فتختفي القضبان الحديدية الصغيرة وتغادرني فكرة السجن.
كانت جدتي تقول "الدني شَلّة حرير"، وكانت تقصد بأن البشر في كل مكان، أقارب، عائلة واحدة. يومها لم أكن قد التقيت بأصدقاء إلا ابنة خالتي، كانت الدنيا صغيرة ومقتصرة على العائلة الممتدّة. اليوم لي أصدقاء في القارات كلها تقريباً. أصدقاء بحكم العيش في بلدان مختلفة، أو بحكم العمل معاً، وأصدقاء لم ألتقهم يوماً حتى، رغم القرب النفسي الشديد بيننا.
من ضمن "شَلّة الحرير" هذه، صديقة عزيزة استضافتني في بيتها في شيكاغو مع ولديّ لأسبوع استرجعنا خلاله تجوالنا في ميشيغن وأحاديثنا وهمومنا الثقافية. التقينا بعد عشر سنوات كأننا لم ننفصل يوماً، وفي المدينة نفسها التي زرناها معاً ذات خريف. هذه المرة عدنا إليها، أنا بولدَين يتبعانني، وهي بواحد ينتظر الخروج إلى الدنيا الواسعة. كان كل شيء أجمل، أكثر اكتمالاً، حتى المدينة نفسها والشقة في الطابق العشرين المفروشة بذوق عال والمطلّة على البحيرة.
لطالما ظننت بأن صديقاتي أفضل مني بدرجة: كنت أظنهنّ أجمل في طفولتي ومراهقتي، ثم بدأت أعتقد بأنهن أكثر راحة مادياً مني. مؤخراً، بدأت أخرج من هذا الرثاء الأحمق للذات، أخبر نفسي بأن كل ما يتعلق بي طبيعيّ جداً: أولادي الذين يتشاجرون على باب الحافلة وخلفنا رتل من الركاب الذين ينتظرون الخروج، العروق النافرة في يديّ، ثيابي التي لم أجد وقتاً لكيّها لأسباب هبطت من السماء في آخر لحظة، عملي في أماكن متعددة تتطلّب كلها تركيزي العالي وابتسامة ما بعد اليأس الساخرة التي لم أعد أسيطر عليها. أخذتُ الحياة على محمل الهزل، كما تستحق تماماً لأني أعرف بأن الناس دائمي النظر إلى ما لا يملكون، لأن العشب أكثر اخضراراً دائماً في الضفة الأخرى.
لسبب ما، وباكراً في حياتي، بدأتُ أؤمن بأن الصداقة أثبَت من الحب. فالحب جارف والصداقة خطواتها بطيئة، الحب متطلّب والصداقة قنوعة. في الحب ننتظر كثيراً، نصعد عالياً لنسمع دويّ وقوعنا. أما في الصداقة، فلا عواطف عمودية، بل ساقية أفقية جارية صغيرة، تروينا قليلاً حين نحتاج. واحتفالاً بالصداقة وتبعاتها على مرّ السنين، سأشاهد الليلة فيلم محمد خان "أحلام هند وكاميليا". عن بنات الهامش الجدعات، عن الصداقة حين تصبح صلة قرابة بالواقع والأحلام. عن "بيت الضيق الذي يتسع لألف صديق".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها