من مسبح الفندق المصمّم بطابع التسعينات الأميركي الشبيه بمسلسل "فريندز" وبألوان البيج والبنّي، أنظر من النافذة الكبيرة المطلّة على الحديقة، فتذكّرني بمدنٍ أخرى زرتها، أو لم أزرها كالقاهرة وطهران وطوكيو: حديقة متوازية على الطريقة الفرنسية، وليست عشوائية بنظام على الطريقة الإنكليزية. الفرنسيون أكثر كلاسيكية من الإنكليز أو الإيطاليين.
تمر في رأسي حكاية الملك الفرنسي الذي استدعى معماراً إيطالياً في ذروة عصر الباروك أو الحروب الدينية، ليبنى له قصراً على النمط السائد حينها في أوروبا. لكن، بعد إنفاق مبالغ هائلة وانتهاء المبنى، تقرر هدمه لأنه لم يناسب الذائقة الفرنسية الكلاسيكية. أفكّر أيضاً بلويس الرابع عشر، المراهق الذي حدد بحزم شكل المسرحيات، منعاً لأي اجتهاد "يُفسد" ما هو تقليدي ومتعارف عليه. طبعاً كان الهمّ الأكبر حينها، منع انتشار البروتستانتية في فرنسا بما حملته من تغيير اجتماعي وإصلاح في البنى السياسية والاقتصادية والفنية.
لماذا أفكّر في هذا كله؟ لماذا لا أكتفي بقلقي اليومي؟ بالأولاد الذين يضحكون ثم يتشاجرون ثم يتراشقون بالماء في تكرار مستمر؟ كم مشكلة لديّ أضعها على الرف كي يسبح خيالي في أمكنته الكثيرة؟ أهي وسيلة للنسيان أم للهروب؟ تضحكني كثيراً فكرة أني أعيش حياة هادئة شكلاً، ومُضنية واقعاً، ما هو الثمن؟ أسأل نفسي. هل خرجت يوماً من بيروت؟ أو ربما السؤال: هل عشت يوماً في بيروت؟ ثم ما هذه الحياة المترنحة باستمرار كأنها على وشك الوقوع؟ وهل أستطيع الكتابة، كما من قبل، باللغة القديمة نفسها، اللغة التي بقِيَت "هناك"؟ وهل للكتابة أن تنتمي لغير الهامش؟ لغير الضواحي والثورة؟ "ابنة السرطان"، قال عنها أنسي الحاج، لكن أنسي كان إبن لويس الحاج، لم يعش في أحياء يتكدّس فيها البشر وقصصهم الحزينة، أحياء الشرايين المفتوحة حيث كل شيء مكشوف للمارة، وحيث الكتابة ترف لا يستطيعه الجميع.
"الحركة بركة"، يقول المثل العامّي، لذلك أعرف أن هناك أماكن كثيرة لم "أعشها" بعد، أدركت ذلك حين تركت مكاني الأول غير آسفة، حين وجدت دواءً سحرياً للحنين المكبّل: الحركة. الحركة بما هي هروب أو تحدٍ للستاتيكو القائم، رفض "على الطريق" مع جاك كيرواك الناقم على قيم المجتمع الأميركي الموغلة في توحشها الاقتصادي وغربتها الإنسانية في مرحلة ما بعد الحرب. الكاتب وشلّته سجلوا رفضهم من خلال التجوال الطويل بالدراجة النارية في طرق الولايات المتحدة السريعة، ولم يعترفوا بالحدود حين واصلوا جنوباً نحو الأراضي المكسيكية. بهذا المعنى كيرواك هو ابن الطريق، وترامب هو ابن الجدار الفاصل. وهذا الفارق بين التغييريين والمحافظين موجود في أي مكان يؤمّن مكاسب اقتصادية لفئة على حساب أخرى. لذلك تسمّي القوى التغييريية نفسها "حركة" أو "تيّاراً"، بينما يتمترس المدافعون عن الوضع القائم تحت أسماء "حرّاس" و"جيش الدفاع".
ميشال فوكو يربط بين الإيديولوجيا السياسية والتوزيع المكاني للسلطة، حيث أن التنقّل يمنع هذه السلطة من بسط نفوذها، ولذلك يسعى الديكتاتوريون أولاً إلى رسم الحدود بحزم وإلى فصل ما هو "نحن" عما هو "الآخرون". لكن أبناء الحرية يعرفون أن أرض الله واسعة، منذ هيبارشيا الإغريقية التي تزوجت بطريقة غير تقليدية ورافقت زوجها كراتيس في رحلته، رافضة حياة الحرملك ومفضّلة الفقر والعوز على نعيم العبودية، وصولاً إلى رابعة العدوية التي وجدت في التصوّف انعتاقاً من قوانين المجتمع وشروطه وأحكامه، إلى ابن بطوطة وماركو بولو وغيرهم.
والهدف ليس الوصول، بل الطريق نفسه. ليس هذا فحسب، بل إن بعض الكتّاب يروق لهم التجوّل في مدن وهمية من صنع الخيال على غرار إيتالو كالفينو في "مدن غير مرئية".
في صغري كنت أخاف من البدوي خاطف الأطفال الذي تحدّثت عنه جارتنا يوماً، أتخيّله على شكل مارد يحمل كيساً ضخماً يضع فيه أولاد الحيّ جميعاً ليبتلعهم دفعة واحدة. ويبدو أن هذا الخوف من البدو مقيم لدى الفلاحين أو المتحدرين منهم. الخوف من المجهول، وربما الخوف من الحرية أيضاً. لذلك، في بلدان عربية كثيرة، نجد ثنائية البدو والفلاحين هذه، ونسمع عن المعارك المستمرة بينهم، معارك بين الاستقرار والارتحال، بين البناء الاجتماعي الثابت والآخر المتفلّت.
لكن الواقع هو أن جزءاً كبيراً من سكّان العالم بات يمكن تصنيفهم اليوم كبدو، إذا أردنا تعريف البداوة بمعناها التقليدي من حيث هي الانتقال الدائم "بحثاً عن الماء والكلأ". جزء كبير من الناس الذين يتم تعريفهم كمهاجرين، تركوا بلدانهم الأصلية لسبب أو لآخر بحثاً عن مستقبل أفضل. وثمة اتجاه في علم الاجتماع لجعل الحق في "البداوة" حقاً أصيلاً للبشر جميعاً، بمعنى أن تصبح للفرد الحرية الكاملة في الانتقال والعيش حيث يجد فرصته الاقتصادية.
أعود إلى نفسي بعد فورة الأفكار هذه، إلى مطار نيوبورت قرب نيويورك في العام 2008. كنت آتية من بيروت غير المؤكدة، نحو قارة جديدة لم تجتذبني يوماً، لا بلغتها ولا بأكلها السريع ولا بأفلامها، على عكس كثيرين من أبناء جيلي. فتح حارس الحدود حقيبتي، رفع عالياً زوجاً من الأحذية، وضعه جانباً ثم دسّ يده مجدداً في الحقيبة ليقع على ثانٍ ثم ثالث ثم رابع. نظر إليّ في شكّ واستغراب، ليقول: "المزيد من الأحذية؟". لا أذكر لماذا قررت وقتها أن أجلب معي أحذيتي كلها، لا أذكر حتى لماذا كانت لديّ أحذية كثيرة! لكني حين أتأمل اليوم الرحلة، أعرف أني كنت موقنة بأن عليّ أن أجتاز مسافة طويلة. أن أتحرك كي لا أستنقع، كي لا أفقد ملامحي وأسقط في العادي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها